شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | مقالات | ” ليبقى ” لبنان وطنا نهائيا لجميع ابنائه سيدا حرا مستقلا عربي الانتماء والهوية”.
” ليبقى ” لبنان وطنا نهائيا لجميع ابنائه سيدا حرا مستقلا عربي الانتماء والهوية”.

” ليبقى ” لبنان وطنا نهائيا لجميع ابنائه سيدا حرا مستقلا عربي الانتماء والهوية”.

22 – 9 – 2022

دير مار روكز، الدكوانة، جبل لبنان

دولة الرئيس نبيه برّي المحترم

هي المرة الأولى التي أقف فيها أمام رئيس التشريع في وطني لبنان وليس أمام أسقف أو بطريرك. أزور اليوم صرح الرئاسة الثانية وكدت أقول “صرح الشعب الأول” لأنه من هنا ينتخب رئيس الجمهورية، ومن هنا تصدر القوانين باسم الشعب. ولكنها ليست المرة الأولى التي أقف روحيا فيه وأصلي له إذ، منذ اندلاع الحرب اللبنانية وبدء إسقاط القوانين وتحلل القضاء أمام “عدالات” قوى الأمر الواقع، لم يتركه لا قلبي ولا ذهني ولا روحي. ولطالما تقاطعتُ في فكري المسيحي الثائر مع مسيح جبران خليل جبران، والمهاتما غاندي، وسماحة الإمام المغيب موسى الصدر الذي أبهرني في عز شبابي بإطلالاته المميزة بين الحسينيات والجوامع والكنائس، كما أبهر المجتمع اللبناني التواق آنذاك إلى “التكاؤن” بوجه التقسيم والتشرذم الثقافي والديني، وتوجيه السلاح بالاتجاه الخاطئ، للتفتيش معهم ومن خلالهم، عن المستقبل الأفضل لوطن الأرز المفدّى.

واشتدت علاقتي بجوهر مصدر التشريع هذا كلما كان يتم اغتيال مشرّع من نوابه، وبخاصة عندما تصومعتم أنتم به ليلا ونهارا درءًا لخطر الاغتيال عنكم وتصفية مصدر التشريع فيه، أيا يكن العدو الشبح الذي كان ولا يزال يحاول أسقاط ركيزة الشرعية والتكاؤن في لبنان. وها هو اليوم أقرب إلى هدفه من أي وقت مضى.

دولة الرئيس، أتوجه إليكم وصدى كلمات الإمام المغيب:” حتى لا يبقى محروم أو منطقة محرومة في لبنان” يتردد حيا في وجداني، ولم يحدّد سماحته لا نوع ولا لون ولا جنس المحروم. ولكن لما دُق ناقوس الخطر على محرومي دير الأحمر ورأس بعلبك والقاع، توضح القصد عنده بالوحدة بين محرومي لبنان، كل محرومي لبنان، وعمامته وقلبه وبيته ومنبره، هو الإمام القائد. أوليس من صفات القائد الصالح أن تتوحّد في شخصه مكونات مجتمعه كافة؟ بلى، هذه هي علامة القائد الصالح، ألاّ يميّز بين من يحمل قضيتهم الإنسانية طالما هي إنسانية. لهذا السبب ارتعب الخصم “الشبح” من مسيرة وأفق الإمام الصدر ووضع لها تغييبا عاموديا فاصلا من دون أن ينتبّه إلى أن رسالته الأفقية التي تعلو “الاغتيال”، وتؤمّن التواصل بين الما قبل والما بعد، تُقرأ: “رسالتي الدفاع عن الانسان المحروم المعذب[1] في أي مكان وزمان، فاكتمل الصليب واستمرّت الحياة.

ولكن، دولة الرئيس، أخالني ألمس بأن هذا “الشبح” المُعلن والخفي في حين، لا يزال ينتقم لخسارته أمام تدمير حُلمين، حلم الإمام الصدر وحلم الرئيس رفيق الحريري،  اللّذين لا خلاف بينهما بل تكامل، فالأول أراد أن يمتّن صرح الإنسان اللبناني والثاني العمارة الاجتماعية الثقافية الحضارية له، ولكن في مكان ما، وعلى غفلة الاستعجال الدائم لوضع الحلول وتأمين البدائل تُركت بعض الثغرات في [الدستور الحالي] كفيلة أن توصل لبنان، بعكس الرغبات والمرتجى، إلى ما وصل إليه اليوم: حرمان مدقع في كل مكان و عتمة فساد تمنع كل افتخار بكرامة أو بحضارة. ولا آسف بأن أقول، بل هي مسؤوليّتي أن أشارككم، بصفتي الروحية، بأن روحَي هذين الشهيدين الماردين اللذين هما ” أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ” تنعصر ألما من حيث هي،  على ما وصل إليه وضع لبنان وإنسانه.

ومن الثغرات التي تأتّت بسبب الإسراع، حتى التسرّع، في إنهاء اتفاق الطائف، عدم توازن الصلاحيات الأساسية ووضوحها لدى الرؤساء الثلاثة، بخاصة صلاحية الحل والربط بيد رأس الدولة الساهر على الدستور، ما أدى إلى التضارب في الحكم بدل المشاركة العادلة التي كانت محور عملية المصالحة في لبنان التسعينيات. إن الشروط الثلاثة لإنهاء التقاتل آنذاك، والتي لا تشكل أساسا سوى شرط واحد، كانت ولا تزل لغاية اليوم: المشاركة في الحكم، إلغاء الطائفية وصلاحيات رئيس الجمهورية، وهذا ما ردّدتموه أنتم على الدوام. وثلاثتها هدفت وتهدف للحد من تسلط مكوّن لبناني على المكونات الأخرى بشكل مجحف. ولسخرية التاريخ، وبعد أن سُحبت الصلاحيات الرئاسية المصيرية من ما سميّ “المارونية السياسية”، المكوّن الذي افتتح حرب 1975 للذود عن لبنان ضد مطامع “الفلسطينية السياسية” ، لم يعد بإمكان أحد وضع نهاية لتلك الحرب، بدءا بالنّفسي، ثم الطائفي، إلى العسكري، فكُلّف النظام السوري بالأمر، دوليا، مع الاعتقاد بأن إسكات السلاح بهدف الانطلاق بالعمران أمر كاف لاستعادة الدولة السيّدة الحرة، المستقلة، ولم يؤخذ بعين الاعتبار ما قاله أيضا الإمام المغيب بأن ” الطائفية في لبنان بحث سياسي” وبالتالي لا تحلّ تعقيداتها النفسية والاجتماعية عسكريا.

لا، لم يكن، ولا في أي يوم من الأيام كان إسكات السلاح كافيًا لتأمين العدالة والسلام فكيف إذا يمكن لدستور منتقص فُرض بالنار والبارود والدم، أن يشفي أمراض البشر النفسية التي تخلّفها حرب، اتخذت كل الألوان، لمدة خمسة عشر عاما؟ (واليوم بات عمرها 47 عاما). فباتت الثغرات الدستورية للجمهورية الثانية وسائل أكثر من كافية “للشبح” المتربص بلبنان كي يسمح بقدر ما يناسبه من النجاح طالما هناك دم يمتصه منه، واليوم، بعد أن انتهى دم الضحية قرّر الإجهاز عليها بدءا بانفجار الرابع من آب 2022.

عليه، وبما أن فقيركم الواقف هنا هو من نشر عام 1987 كتيّبا صغيرا ألوان غلافه علم لبنان، وعنوانه “الجمهورية الثانية – مشروع الإنسان من أجل السلام في لبنان والعالم”، نشرت منه ألف نسخة، وقد حدّثته إثر استشهاد المغفور له الرئيس الحريري سنة 2005، تحت عنوان “تحوّل المفاهيم في بناء الجمهورية – نحو جمهورية لبنان الخامسة”، ناشرا منه مئات النسخ في لبنان والانتشار، دون أن يأبه أحد لدقة إحاطته بالثغرات والتعقيدات التي يتميّز بها الحكم في لبنان والتي تحتاج استيعابا كاملا لها كي توضع لها الحلول الكفيلة ببناء وطن حرّ سيد مستقل وقابل للنمو الطبيعي في خدماته واقتصاده. أما سبب عدم الاكتراث هذا كان النمو الخلاب “الخائن” لاقتصاد رَيعي جَعل المال (الدولار) غاية وليس بعد وسيلة. والسؤال الذي لطالما سألته لمحاوريَّ في الندوات، ومنها واحدة في النبطية بالذات سنة 2007، ماذا يكون مصير دولة أو أمة او قبيلة أو عشيرة المال فيها غايةً وليس وسيلة؟

اليوم بات الجواب على هذا السؤال “فاقعا” وما عاد أحد يجهله، ويحاول أن يستخلص منه الدروس. فدفعني هذا الوضع المأساوي لاستعادة رسالتي الكهنوتية الأساسية وهي زرع الرجاء ووضع كل مقدراتي بتصرّف استعادة دستور الطائف وإخضاعه لعملية جراحية لسدّ الثغرات بما فيه ليونة وانسيابية أفضل، وعدالةٌ أكثر وأدقَّ بالمشاركة بالحكم وإلغاء الطائفية، وبالتالي صلاحيات أكثر موضوعية للرؤساء الخمس وقيادة الجيش في الجمهورية. فكان كتابي هذا “ألجمهورية الخامسة: ألحل للمعضلة اللبنانية” أرفعه لدولتكم باليد، بعد أن رفعته إلى امين سرّ دولة الفاتيكان نيافة الكاردينال Parolin ولصاحب الغبطة والنيافة البطريرك الراعي، والذي سأكمل إيصاله، بعد إذنكم، إلى كافة النواب الحاليين، كما إلى الوزراء بواسطة رئاسة الحكومة، وقد اوصلته أولا إلى صديقي وزير الإعلام زياد المكاري الذي شرفني برعاية المؤتمر الصحفي حول مضمونه في نقابة الصحافة في 2 تموز 2022، مستذكرين تاريخ تغييب الإمام الصدر في الأول منه، مع دقيقة من الصمت.

أنهي رسالتي إليكم، راجيا صبركم، بتفصيل بعضٍ من نواة هذه الرؤية التي أعتبرها اليوم فعليا الحل بالمطلق لمعضلة لبنان التاريخية، والعرض الذي لا يمكن رفضه لإخراج لبنان من جَناح غرف العناية الفائقة لدى البنك الدولي. أستلُّ هذا التفصيل من مقدّمة المغفور له الأب البروفسور جورج رحمه لطبعة 2006:

ويتساءل المؤلف: أي لبنان نريد؟ ويأتي جوابه جازمًا حازمًا: في لبنان الذي نريده لا حضارة تحت ولا حضارة فوق، لا دين تحت ولا دين فوق، لا عائلة تحت ولا عائلة فوق، لا إقطاعية ولا مناطقية، ولا حزبية – فئوية أصولية، إنما أمّة واحدة لبنانية يتكامل فيها الجميع متكافئين على نحوٍ محوري في سياق حركة لولبية للتاريخ حول لُب هذا الكيان الذي هو كرامة الشعب المبنية على حق الإنسان في الحياة، وحرّية المعتقد وحرّية التعبير، والمشاركة العادلة في تقرير مسار يؤدّي بالجميع إلى مصير كريم واحد…

وبالفعل، مبادئ الجمهورية الخامسة تعتبر الإنسان المقياس الأوّل والأساس للعمل السياسي، من ضمن نظام لا طائفي للدولة يؤمّن كرامة المواطنين وصالحهم العام، فرادى وجماعات، ويحترم كل البنود السابقة المتعلّقة بالطوائف وحقوقها وواجباتها، وفي جوّ من المساواة والعدالة، ولكن مع تمايز الطوائف الستّ الأساسية، حتّى إشعار آخر، بمساواة سياسية على صعيد وظائف الرئاسات الأولى وقيادة الجيش.

ونواة هذه الجمهورية هو الشعب الذي ينتخب بموجب قانون انتخابات عصري يعتمد مبدأ النسبية (مع لبنان دائرة واحدة)، مجلسًا للنواب، وبقانون انتخاب أكثري مجلسا للشيوخ على أساس الأقضية، وبقانون أكثري من قبل المصارف والصناعيين والمؤسسات التربوية والاستشفائية والنقابات والهيئات الشعبية مجلسا اقتصاديًّا-اجتماعيًّا، نص الكتاب على بعض صلاحياته الملزمة.  

تشكّل هذه المجالس الثلاثة مجتمعة مجلس الشعب الذي له مداره الخاص (مدار مجلس الشعب) وهو الأقرب من نواة الجمهورية الخامسة أي الصالح العام وكرامة الإنسان…

في الجمهورية الخامسة الرئاسات الخمس وقيادة الجيش خدمة متساوية، والطوائف الستّ متساوية في الحقوق، تتشارك في الحكم من دون تحديد أي كرسي لأي طائفة. فرئاسة الجمهورية هي لأي لبناني من هذه الطوائف الستّ، وهكذا رئاسة مجلس النوّاب، ورئاسة مجلس الوزراء، ورئاسة مجلس الشيوخ، ورئاسة المجلس الاقتصادي-الاجتماعي، وقيادة الجيش، بشرط وحيد هو ألاّ يحتلّ مسؤوليّتين شخصان من طائفة واحدة في الحقبة نفسها.

دولة الرئيس، لطالما عُرفتم بدفاعكم العقائدي الموروث عن الإمام الصدر عن “فسيفساء” لبنان القديس البابا يوحنا-بولس الثاني، ورسالته في التكاؤن بين الأديان والثقافات، فمعكم أدعو إخوتي وأخواتي اللبنانيين إلى تخطّي حتمية التاريخ المتربّعة في نفوسنا وكأن قيامة الكلمة الحق من الموت لم تحدث، وكتاب السلام والتسليم للحق لم يُنزل، وكأن تحطيم قيود تلك الحتمية الوثنية لم يتمّ، وما دعوتي هذه إلا لإدخال النفوس ولبنان في جدلية لولبية توحيدية لا سقف لها، حتى ولو خضعت لنسبية السقوف، وهي جدلية توفِّر علينا حمّامات الدم وتحافظ على الإرث الروحي والدّنيوي المستمرّ منذ أكثر من ستة آلاف سنة.

ومع سماحة الإمام الصدر، الغائب الحاضر، أقول: “سأبقى القلم الذي لا يذرف الا بحبر الحقيقة مهما كانت مرة” ليبقى “ لبنان وطنا نهائيا لجميع ابنائه سيدا حرا مستقلا عربي الانتماء والهوية“.

عشتم وعاش التكاؤن اللبناني وعاش لبنان

الأب د. ميخائيل روحانا الأنطوني


[1] كلام لسماحة الإمام المغيب موسى الصدر

عن ucip_Admin