شريط الأحداث
أختر اللغة
الرئيسية | إعلام و ثقافة | ماذا يقول اسكندر حبش عن “الأعمال الشعرية” والحياة والحداثة والكلاسيكية؟ أرغب بلغة هادئة والغائب الأكبر هو الحلم ببلد يجب أن يتحقق ويصبح واقعاً
ماذا يقول اسكندر حبش عن “الأعمال الشعرية” والحياة والحداثة والكلاسيكية؟ أرغب بلغة هادئة والغائب الأكبر هو الحلم ببلد يجب أن يتحقق ويصبح واقعاً
اسكندر حبش

ماذا يقول اسكندر حبش عن “الأعمال الشعرية” والحياة والحداثة والكلاسيكية؟ أرغب بلغة هادئة والغائب الأكبر هو الحلم ببلد يجب أن يتحقق ويصبح واقعاً

اسكندر حبش شاعر ذو طابع خاصّ وفكر عميق، يكتبه بلغة هادئة وبسيطة. مرّ بمراحل مختلفة، انعكست في كتاباته تنوّعًا وتغييرًا وتجديدًا، وربّما انطواءً وهروبًا وصمتًا. لذلك قد يحتاج قارئه بعض السكينة والشفافيّة ليسمع صوت الشاعر ويحرّك سكون كلماته. فجأة، يصدر اسكندر حبش “الأعمال الشعرية”. لماذا؟ هل اكتملَت “الأعمال”؟ يجيب حبش عن هذا السؤال، إضافة إلى أسئلة أخرى في هذا الحوار:

■ “خيط ليس للانتحار”، هذا العمل الّذي ضمّ مجموعاتك الشّعريّة. هل تأتي صيغة النفي لتأكيد فكرة الانتحار؟
– أحبّ أن أؤكّد، بداية، أنّ ضمّ مجموعاتي الشعرية – التي أصدرتها منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي إلى العام 2014 – في كتاب واحد، لا يعني أبدًا، أنها “الأعمال الشعرية الكاملة” (أصلا لا يحمل عنوان الكتاب هذه العبارة)، مثلما لا يعني في أيّ حال أن لديّ”مشروعا ما” في التوقف عن الكتابة، مثلما، بطبيعة الحال، لا أعتبر أنني حققت “منجزا” ما. الأمر، وببساطة شديدة، أنّ الصديق الشاعر العراقي زعيم نصار، صاحب “دار الروسم” في بغداد، وخلال زيارة له لبيروت،عرض عليّ فكرة جمع هذه المجموعات في طبعة جديدة تصدر في العراق. إذ، وكما أسرّ لي لحظتها، أن كتبي هذه ليست موجودة في العراق، على العكس من الترجمات التي أصدرتها.
راقتني الفكرة، ولم أتردد لحظتها. كل ما قلت له: “ستكلفك طباعة الكتاب كثيرا”. أجاب: “هذا شأني أنا”. وهذا ما حصل، ليخرج الكتاب بحلّة أنيقة أعجبتني. لهذا أكرر: لا أعتبر بعد أن تجربة الكتابة عندي وصلت إلى مبتغاها الأخير. ما زلت أحاول الكتابة الشعرية، ولديَّ العديد من النصوص الجديدة التي قد أنشرها في الفترة المقبلة. بمعنى أنني لم أحصر التجربة في هذا الكتاب. ربما كل ما في الأمر أني وجدت من الجيد أن أجمع هذا العمر المبعثر – من كتاب إلى آخر – في مجلد واحد.
أما فيما يخص فكرة الانتحار التي تطرحينها في سؤالك، فلا أعرف ما إذا كان”الضدّ يظهر حسنه الضدّ”. أعتقد أنّ الكتابة كلّها هي نوع من الإنتحار، عندما يخصّص الإنسان عمرًا طويلًا في مشروع شعريّ أو كتابيّ، ينسحب من الحياة، والإنسحاب هو نوع من الإنتحار. ولكن ليس بالمعنى السلبي، فأنا أجْبَن من أن أنتحر عمليا. بل بالعكس، لا يزال لديّ ما أريد كتابته وقوله.
■ في شعرك احتجاج ورفض للتواصل مع الواقع. بصفتك شاعرًا، هل يؤدّي هذا الانقطاع إلى نتيجة إيجابيّة، أم يضيف أزمة إلى مجموع الأزمات؟

– كتاباتي كلّها تمويهٌ ماعبرالكلمات واللغة. هذا الاحتجاج هو على الواقع نفسه، وليس لأن في نفسي عن الواقع أوعن الحياة اليوميّة. مجموعتي الأولى “بورتريه لرجل من معدن”، كانت كلّها عن الحرب الأهلية التي عشتها في مطلع شبابي، وهي احتجاج ورفض لهذا الواقع. قدمت احتجاجي على الواقع الموجود، ولم أكن منقطعًا عنه، واحتجاجي لم يكن شتماً للحرب بقدر ماكان إعادة تفكيرفيهاوبالديكور الخلفيّ لها.
أعتقد أن عمق الكتابة، يكمن أساسا في أن ننطلق من واقع ما ومن حياة يوميّة معيشة بمختلف تفاصيلها، من أجل أن نصل إلى كتابة “نحلم” بها، ونبحث من خلالها عمّا نريد. بهذا المعنى أريدأن أقول إن الكتابة الأدبيّة، والشعريّة خاصّة، ليست منشورًا سياسيًّا، على الرغم من أنها تحوي الكثير من “السياسة”. يمكن بالتأكيد أن نكتب السياسة في الشعر، وهذا لا أرفضه البتة، يمكننا أن نعبّر عن موقف بكلّ مايحمل هذا الموقف من بعد ومن هزّ للواقع. ولكن، علينا الاعتراف، أيضًا، أنّ الشعر لا يحتمل الكثير من الكلام المباشر. هذا “الكلام المباشر” أتركه لمقالات سياسيّة، لمقالات أخرى، وحتى لشذرات فايسبوكيّة بمعنى ما، أعبّر من خلالها عن آرائي السياسيّة، التي ترغب في قراءة الواقع، لتتحدّث عن التجربة الحياتيّة التي نعيشها اليوم.
في كل حال، لا أجدني غيرمتواصل مع الواقع: أحبّ أن أعيش الحياة كماهي. لا أحب أن أعيشها بهدف الكتابة عنها. بل أحب أن أحيا الحياة، ومن خلال هذه التجربة الحياتية أعيد صوغ أسئلة الكتابة. لذا أجد أن الكتابة ليست بديلًا من الحياة، بل هي حياة أخرى، موازية. هناك حياة أحبّ أن أعيشها بكلّ تفاصيلها، ومن خلال هذه التجربة، أكتب عنها، سواء بالسرد أو بالشعر أو بأنواع أخرى من الكتابة.

■ ألا يشكّل غياب المثقف، سواء بالانقطاع أو الانتحار أو الاكتفاء بتسجيل موقف، أبرز مشكلات العالم العربيّ؟
– أعتقد أننا نمرّ في فترة، علينا أن نعيد فيها تحديد هذه الكلمة قليلا: كلمة “المثقف”. لفترة طويلة ماضية كنت أعتقد أنّ المثقف هومَن عليه أن يقرأ ويكتب فقط، وأن لا ينشغل كثيرا بالهموم اليومية، وأن يخفف كثيرا من إعطاء آرائه في الحياة والوجود والكون.لكن الذي حصل فعلا، أنني منذ سنوات، أعيد التفكير في كلّ شيء. أعتقد أنه من المفروض علينا اليوم، نحن الذين نكتب، أن ننخرط أكثر في هذه الحياة “العادية”. لا يمكن الكتابة أن تكون مجرّد”ترف فكريّ” فقط، كما كنت أفكّر في مرحلة سابقة، أو أن ننقطع عن حبل سرّة العالم، وبخاصة في هذه الزاوية من العالم، التي نعيش فيها، والتي تجتاز مرحلة خطيرة، أصبحنا معها مهددين في وجودنا.
أنظر اليوم إلى ما يحدث لنا من منظور آخر، وربما استغرب بعضهم مواقفي الأخيرة. لا أريد أن أدخل في هذا النقاش. ولكن، فعلاً أحسّ أنّنا نعيش في لحظة حقيقيّة، في صراع وجود، إمّا أن نبقى وإما سنندثر كلنا. علينا أن لا ننسى هذه الكلمات وأن لا نعتبرها قديمة: أقصد القضية الفلسطينية، الإمبرياليّة الأميركيّة، الصراع العربي/ الإسرائيلي. هذه كلّها تهدّد وجودنا. لذلك علينا إعادة التفكير اليوم في: مادور المثقف، وأين هو؟ أعتقد أنّ دورنا، نحن الذين نكتب، يتعدّى تأليف قصيدة جميلة. صحيح أنّه من الجميل أن نكتب قصيدة جميلة، وأن نرسم لوحة. لكن علينا أن نفكّر في كلّ هذه الحركات التكفيريّة التي تتوالد هنا وهناك. هذا المشروع الذي يجب أن نواجهه. لا يمكننا أن نواجهه إلا بالكتابة وبالثقافة. لذلك أطرح السؤال على نفسي اليوم: ما معنى المثقف إذا كان بعيدًا عن قضاياه الأساسية؟
أضعنا وقتنا ونحن نناقش الشعر بين النثر والعمود، بينما في الواقع، ثمة من يعلقنا على العمود، وفي وسط الساحات العامة، وتنقل شاشات العالم الأمر، باعتباره حدثا عابرا.

■ لماذا طرح موضوع الضياع، الغريب، والغياب دائمًا؟ ما ومَن هو الغائب الأكبر عن عالَم اسكندر حبش؟
– أعتقد فعلا أن جانبا كبيرا من نصوصي يقع على هذا الجزءمن الغربة والغياب. غياب الأشياء، وغياب الأصدقاء، وغياب العالم. أولًا، لا يمكنني أن أنسى أنّي ولدت من “هجرتين”، من ناحية عائلة أبي كما من ناحية والدة أمي؛ فبالتأكيد عندما يعيش الإنسان في محيط وفي مكان بين عائلتين تنتميان إلى جذور مختلفة، لا بدّ له أن ينشأ ضمن هذه الحالة “من المنفى”، لنقل منفىً داخليًّا. لا بدّ أن يسمع الكثير أيضا عن حكايات الغياب والغائبين. لا يمكن أحدا أن ينسى الجذور التي أتى منها. من هنا، يبدو ممكنا أن ينسحب هذا”المنفى الداخليّ” على الكتابة.
ثانيًا: عندما بدأت، مع العديد من الأصدقاء والزملاء والكتّاب، بدأنا الكتابة في زمن الحرب.كان هناك الكثير، من هذا الجيل، ممّن انتموا إلى أحزاب وحاربوا… الخ. لم أنتمِ في تلك الفترة إلى أي حزب، كنت أنظر إلى الحرب كأنها شيء بعيد عنّي، فوضعت مسافة بيني وبينها، أقصد الحرب بالمعنى المادّي، فكتبت عنها ولكن لم أشارك فيها.
الغياب هو غياب أصدقاء رحلوا، إمّا هجرة، وإما موتاً، وإما قتلاًبالحرب، وإما خطفاً.أشياء “راحت”، طفولة “راحت”، وأمكنة”راحت”. كنت أسأل نفسي عن معنى هذا الغياب. أعتقد أنّ هذه الأشياء ولدت، والمرء لا يعرف لماذا يكتب عن موضوعات مفضّلة لديه، يرجع إليها دائمًا، هكذا هوتكوينه، وهكذا هي حالته الذهنيّة والنفسيّة، حتى الكتب والثقافة التي حصّلها وتراكمت في ذهنه، تجعله يختار أشياء معيّنة يكتب عنها.
الغائب الأكبر؟ هناك الكثيرمن الأشياء الغائبة: فلسطين بلد جدي لوالدي، وأرمينيا التاريخية حيث ولدت جدتي لأمي. هذه أمور لا تأتي من الإفتعال، إنّما من محاولة البحث عن الجذور. على فكرة،أحب كتاب “لا تنبت جذور في السماء” ليوسف حبشي الأشقر، وهو برأيي كاتب عظيم لم يأخذ حقه، ولكن يجب أن تنبت هذه الجذور في الأرض. فقد أتى كلّ إنسان من مكان ما، لا يمكن لأحد الانقطاع عن هذه السلالة كلّها التي سبقته. آتية بسياق اجتماعي، وسياق ثقافي، وحتى سياق ديني. بعد ذلك، يفكّر هذا الإنسان طويلًا، ليختار ما يعنيه، ويترك ما يزعجه. لكنّ هذاكلّه يأتي مع الحياة. الغائب الأكبر باختصار هو حلم إلى بلد يجب أن يتحقق هذا الحلم ويصبح واقعاً.

■ يطال احتجاجك لغتَك، فتبدو، رغم شفافيّتها وبساطتها، مهدّمة وفوضويّة، تحمل ملامح حياة خفيّة ربما تعيشها بينك وبين نفسك، وربما تتمناها. ما هو هذا الخفي؟
– في موضوع اللغة: لقدكتبت مرّة عن”اللغة المنتصرة”، فنحن عشنا في ظلّ مفهوم غالب هو أنّ اللغة العربيّة هي اللغة الأساس في كل كتابة، في كل تفكير، لذلك، سميّتها “اللغة المنتصرة”. لا أريد أن أدخل في تفصيل مصطلح”اللغة المقدسة”. ربما يكمن الاحتجاج هنا، في أنّ اللغة يجب ألا تكون منتصرة علينا إلى هذا الحدّ، بل يجب إعادة التفكير في هذا الأمر. حاولت أن أكتب بأقلّ عدد ممكن من المفردات. ففي قصيدة طويلة يمكن أن تكون كتابًا كاملًا،حاولت أن أحدّ من اتّساع معجمها اللغوي بقدر ما أمكن، مثلما فعلت في “أشكو الخريف” أو “في تلك المدن”، أن تكون اللغة غير عنيفة أو فجّة أو بلاغيّة، بل شفافة وهادئة، بشرط أن توصِل الفكرة التي أريد قولها. وإذا كنت تريدين تسميته “احتجاجًا عبر اللغة” فليس لديّ مانع، بالعكس هو توصيف جميل، حيث أنّني احتججت باللغة على اللغة، لأن اللغة ليست غاية فقط، بل، بالنسبة للكاتب، هي وسيلة، شئنا أم أبينا، وهذا رأيي. فليس على الكاتب أن يجعلهاغايته، ويجب ألا يحدّ موهبته في كتابة لغة عظيمة. مع أنّه من الجميل أن نكتب لغة عظيمة، لكن يجب ألا تقود الصيغ الجاهزة الكاتب، بل يجب أن نعيد التفكير في هذه الصيغ اللغويّة التي ورثناها، وبالنتيجة التي أوصلتنا إليها.
ما أقوله لا يعني مطلقا هدم اللغة، ليست لديَّ أي مشاريع أو أحلام تقترب من هذا. فقط هي محاولة لإعادة التفكير في كيف نكتب من لغة. أرغب في لغة أهدأ وأبسط، بعيدًا من هذه “الدشم” و”الكتل” اللغويّة التي تربّينا عليها. فاللغة هي حياة لايمكن العيش بدونها، هي كل شيء: وسيلة التعبير والتفكير، هي حياة بأكملها. إذا لم يُعِد الكاتب اختراع لغته الخاصّة، أعتقد أنه لن يتمكّن من الوصول إلى غاية أو نتيجة، يعني يمكن للكاتب أن يكتب جملة وحيدة، لكنها تكفي، لن أقول للخلود، لأنه ليست لديّ أحلام بذلك، ولكن أن يقول لنفسه: حققت ما أريد.

■ ماذا تريد أن تقول من خلال اعتمادك هذا الأسلوب (غير المنتظم على المستويات كافّة) في دواوينك؟
– كل ما أفعله، أني أحاول من كتاب إلى آخَر أن أغيّر في طريقة الكتابة وحتى طريقة التفكير. من قال إنّ الشعر يجب أن يكون هكذا أوهكذا. لا أتحدّث هنا عن الوزن والقافية والتفعيلة أو عن قصيدة النثر أو سواها. أجمل ما في الشعر أنه لا يمكن تحديده فعليًّا. هناك نص، سواء أكان موزونا أم غير موزون، “يا إمّا بتحبيه أو ما بتحبيه”. حاولت بين الكتاب والآخر، أن لاأستسهل الأمور، كأن أتّبع الأسلوب نفسه. فهناك أناس يكتبون قصيدة واحدة من أوّل حياتهم إلى آخرها، أقصد أنّ لديهم أسلوبا واحدا. أما أنا، فأحبّ أن أغيّر في أسلوبي بين نتاج وآخر، قد يكون التغيير للأسوأ، لاأعلم، لكني لا أحب أن أبقى في مستنقع واحد، أحب أن أخرج من الرتابة دائماً، ولا أعلم إذا فشلت أو نجحت. أحبّ إعادة التفكير في ما سبق، والتفكير في شيء جديد ممكن أن يتطوّر، إلى غير ذلك. فكتاب “بورتريه لرجل من معدن” مثلاً، لا يشبه إطلاقًا “لا شيء أكثر من هذا الثلج”، هناك نص مختلف من حيث اللغة. تخليت عن تلك اللغة الجامدة في “بورتريه”، ولم أعد أكتب بها. بصراحة، كنّا ننطلق في جيلنا من أنّ النص النثري هو القصيدة.
عندما أتذكر ذلك، أضحك على نفسي، كيف أننا حاولنا بهذه الإيديولوجيا الشعرية التي كانت عالقة برؤوسنا في تلك الفترة، أن ننفي مجموعة كبيرة من الشعراء لأنهم لا يكتبون بالأسلوب نفسه. ما قمنا به كان خطأ، إذ هناك قصائد كلاسيكية مدهشة، وأنا، حاليًّا، أحبّ المتنبي أكثر من إيف بونفوا، في حين أنّ هؤلاء الشعراء والأسماء اللامعة الأجنبيّة، كانوا لي في الماضي، الحلم والقدوة. ولكن الآن، لا يعنون لي سوى أنني أترجم لهم، لأقدّم تجارب شعراء غربيين إلى القارئ العربي.أميل الآن إلى القصائد الكلاسيكيّة، وأصبح لديّ الكثير من علامات الاستفهام حول القصيدة الحديثة، القصيدة النثرية، لمافيها من “تخبيص”، ومن بينها القصائد التي كتبتُها، وأصبح الشعر بالنسبة إليّ الآن “أوسع بكثير”.

■ الصحافي والمترجم والشاعر والناقد. هل من توازن بين هذه الشخصيات الأربع الموجودة فيك؟
– اسمحي لي أن أجيب عن هذا السؤال بطريقة ثانية: هناك شاعر برتغالي أحبه كثيراً اسمه فرناندوبيسوا كتب بأسماء عديدة، لم تكن أسماء مستعارة؛ وإنّما اخترع شخصيّات أخرى وشخصيّات بديلة من شخصيّته الحقيقيّة. وكان كل شاعر يكتب باسم معيّن. أما أنا فلم أغيّر اسمي، بل بقيت محافظاً على اسكندر حبش، وإنما قدّمت في الصحافة عملًا مختلفًا عن عمل الترجمة، مختلفًا عن عمل الشاعر، مختلفًا عن عمل الناقد. ويمكنني أن أقول إنّها لعبة “بيسواويّة” مقلوبة بشكل من الأشكال.
■ في شعرك احتجاج ورفض للتواصل مع الواقع. بصفتك شاعرًا، هل يؤدّي هذا الانقطاع إلى نتيجة إيجابيّة، أم يضيف أزمة إلى مجموع الأزمات؟

– كتاباتي كلّها تمويهٌ ماعبرالكلمات واللغة. هذا الاحتجاج هو على الواقع نفسه، وليس لأن في نفسي عن الواقع أوعن الحياة اليوميّة. مجموعتي الأولى “بورتريه لرجل من معدن”، كانت كلّها عن الحرب الأهلية التي عشتها في مطلع شبابي، وهي احتجاج ورفض لهذا الواقع. قدمت احتجاجي على الواقع الموجود، ولم أكن منقطعًا عنه، واحتجاجي لم يكن شتماً للحرب بقدر ماكان إعادة تفكيرفيهاوبالديكور الخلفيّ لها.
أعتقد أن عمق الكتابة، يكمن أساسا في أن ننطلق من واقع ما ومن حياة يوميّة معيشة بمختلف تفاصيلها، من أجل أن نصل إلى كتابة “نحلم” بها، ونبحث من خلالها عمّا نريد. بهذا المعنى أريدأن أقول إن الكتابة الأدبيّة، والشعريّة خاصّة، ليست منشورًا سياسيًّا، على الرغم من أنها تحوي الكثير من “السياسة”. يمكن بالتأكيد أن نكتب السياسة في الشعر، وهذا لا أرفضه البتة، يمكننا أن نعبّر عن موقف بكلّ مايحمل هذا الموقف من بعد ومن هزّ للواقع. ولكن، علينا الاعتراف، أيضًا، أنّ الشعر لا يحتمل الكثير من الكلام المباشر. هذا “الكلام المباشر” أتركه لمقالات سياسيّة، لمقالات أخرى، وحتى لشذرات فايسبوكيّة بمعنى ما، أعبّر من خلالها عن آرائي السياسيّة، التي ترغب في قراءة الواقع، لتتحدّث عن التجربة الحياتيّة التي نعيشها اليوم.
في كل حال، لا أجدني غيرمتواصل مع الواقع: أحبّ أن أعيش الحياة كماهي. لا أحب أن أعيشها بهدف الكتابة عنها. بل أحب أن أحيا الحياة، ومن خلال هذه التجربة الحياتية أعيد صوغ أسئلة الكتابة. لذا أجد أن الكتابة ليست بديلًا من الحياة، بل هي حياة أخرى، موازية. هناك حياة أحبّ أن أعيشها بكلّ تفاصيلها، ومن خلال هذه التجربة، أكتب عنها، سواء بالسرد أو بالشعر أو بأنواع أخرى من الكتابة.

■ ألا يشكّل غياب المثقف، سواء بالانقطاع أو الانتحار أو الاكتفاء بتسجيل موقف، أبرز مشكلات العالم العربيّ؟
– أعتقد أننا نمرّ في فترة، علينا أن نعيد فيها تحديد هذه الكلمة قليلا: كلمة “المثقف”. لفترة طويلة ماضية كنت أعتقد أنّ المثقف هومَن عليه أن يقرأ ويكتب فقط، وأن لا ينشغل كثيرا بالهموم اليومية، وأن يخفف كثيرا من إعطاء آرائه في الحياة والوجود والكون.لكن الذي حصل فعلا، أنني منذ سنوات، أعيد التفكير في كلّ شيء. أعتقد أنه من المفروض علينا اليوم، نحن الذين نكتب، أن ننخرط أكثر في هذه الحياة “العادية”. لا يمكن الكتابة أن تكون مجرّد”ترف فكريّ” فقط، كما كنت أفكّر في مرحلة سابقة، أو أن ننقطع عن حبل سرّة العالم، وبخاصة في هذه الزاوية من العالم، التي نعيش فيها، والتي تجتاز مرحلة خطيرة، أصبحنا معها مهددين في وجودنا.
أنظر اليوم إلى ما يحدث لنا من منظور آخر، وربما استغرب بعضهم مواقفي الأخيرة. لا أريد أن أدخل في هذا النقاش. ولكن، فعلاً أحسّ أنّنا نعيش في لحظة حقيقيّة، في صراع وجود، إمّا أن نبقى وإما سنندثر كلنا. علينا أن لا ننسى هذه الكلمات وأن لا نعتبرها قديمة: أقصد القضية الفلسطينية، الإمبرياليّة الأميركيّة، الصراع العربي/ الإسرائيلي. هذه كلّها تهدّد وجودنا. لذلك علينا إعادة التفكير اليوم في: مادور المثقف، وأين هو؟ أعتقد أنّ دورنا، نحن الذين نكتب، يتعدّى تأليف قصيدة جميلة. صحيح أنّه من الجميل أن نكتب قصيدة جميلة، وأن نرسم لوحة. لكن علينا أن نفكّر في كلّ هذه الحركات التكفيريّة التي تتوالد هنا وهناك. هذا المشروع الذي يجب أن نواجهه. لا يمكننا أن نواجهه إلا بالكتابة وبالثقافة. لذلك أطرح السؤال على نفسي اليوم: ما معنى المثقف إذا كان بعيدًا عن قضاياه الأساسية؟
أضعنا وقتنا ونحن نناقش الشعر بين النثر والعمود، بينما في الواقع، ثمة من يعلقنا على العمود، وفي وسط الساحات العامة، وتنقل شاشات العالم الأمر، باعتباره حدثا عابرا.

■ لماذا طرح موضوع الضياع، الغريب، والغياب دائمًا؟ ما ومَن هو الغائب الأكبر عن عالَم اسكندر حبش؟
– أعتقد فعلا أن جانبا كبيرا من نصوصي يقع على هذا الجزءمن الغربة والغياب. غياب الأشياء، وغياب الأصدقاء، وغياب العالم. أولًا، لا يمكنني أن أنسى أنّي ولدت من “هجرتين”، من ناحية عائلة أبي كما من ناحية والدة أمي؛ فبالتأكيد عندما يعيش الإنسان في محيط وفي مكان بين عائلتين تنتميان إلى جذور مختلفة، لا بدّ له أن ينشأ ضمن هذه الحالة “من المنفى”، لنقل منفىً داخليًّا. لا بدّ أن يسمع الكثير أيضا عن حكايات الغياب والغائبين. لا يمكن أحدا أن ينسى الجذور التي أتى منها. من هنا، يبدو ممكنا أن ينسحب هذا”المنفى الداخليّ” على الكتابة.
ثانيًا: عندما بدأت، مع العديد من الأصدقاء والزملاء والكتّاب، بدأنا الكتابة في زمن الحرب.كان هناك الكثير، من هذا الجيل، ممّن انتموا إلى أحزاب وحاربوا… الخ. لم أنتمِ في تلك الفترة إلى أي حزب، كنت أنظر إلى الحرب كأنها شيء بعيد عنّي، فوضعت مسافة بيني وبينها، أقصد الحرب بالمعنى المادّي، فكتبت عنها ولكن لم أشارك فيها.
الغياب هو غياب أصدقاء رحلوا، إمّا هجرة، وإما موتاً، وإما قتلاًبالحرب، وإما خطفاً.أشياء “راحت”، طفولة “راحت”، وأمكنة”راحت”. كنت أسأل نفسي عن معنى هذا الغياب. أعتقد أنّ هذه الأشياء ولدت، والمرء لا يعرف لماذا يكتب عن موضوعات مفضّلة لديه، يرجع إليها دائمًا، هكذا هوتكوينه، وهكذا هي حالته الذهنيّة والنفسيّة، حتى الكتب والثقافة التي حصّلها وتراكمت في ذهنه، تجعله يختار أشياء معيّنة يكتب عنها.
الغائب الأكبر؟ هناك الكثيرمن الأشياء الغائبة: فلسطين بلد جدي لوالدي، وأرمينيا التاريخية حيث ولدت جدتي لأمي. هذه أمور لا تأتي من الإفتعال، إنّما من محاولة البحث عن الجذور. على فكرة،أحب كتاب “لا تنبت جذور في السماء” ليوسف حبشي الأشقر، وهو برأيي كاتب عظيم لم يأخذ حقه، ولكن يجب أن تنبت هذه الجذور في الأرض. فقد أتى كلّ إنسان من مكان ما، لا يمكن لأحد الانقطاع عن هذه السلالة كلّها التي سبقته. آتية بسياق اجتماعي، وسياق ثقافي، وحتى سياق ديني. بعد ذلك، يفكّر هذا الإنسان طويلًا، ليختار ما يعنيه، ويترك ما يزعجه. لكنّ هذاكلّه يأتي مع الحياة. الغائب الأكبر باختصار هو حلم إلى بلد يجب أن يتحقق هذا الحلم ويصبح واقعاً.

■ يطال احتجاجك لغتَك، فتبدو، رغم شفافيّتها وبساطتها، مهدّمة وفوضويّة، تحمل ملامح حياة خفيّة ربما تعيشها بينك وبين نفسك، وربما تتمناها. ما هو هذا الخفي؟
– في موضوع اللغة: لقدكتبت مرّة عن”اللغة المنتصرة”، فنحن عشنا في ظلّ مفهوم غالب هو أنّ اللغة العربيّة هي اللغة الأساس في كل كتابة، في كل تفكير، لذلك، سميّتها “اللغة المنتصرة”. لا أريد أن أدخل في تفصيل مصطلح”اللغة المقدسة”. ربما يكمن الاحتجاج هنا، في أنّ اللغة يجب ألا تكون منتصرة علينا إلى هذا الحدّ، بل يجب إعادة التفكير في هذا الأمر. حاولت أن أكتب بأقلّ عدد ممكن من المفردات. ففي قصيدة طويلة يمكن أن تكون كتابًا كاملًا،حاولت أن أحدّ من اتّساع معجمها اللغوي بقدر ما أمكن، مثلما فعلت في “أشكو الخريف” أو “في تلك المدن”، أن تكون اللغة غير عنيفة أو فجّة أو بلاغيّة، بل شفافة وهادئة، بشرط أن توصِل الفكرة التي أريد قولها. وإذا كنت تريدين تسميته “احتجاجًا عبر اللغة” فليس لديّ مانع، بالعكس هو توصيف جميل، حيث أنّني احتججت باللغة على اللغة، لأن اللغة ليست غاية فقط، بل، بالنسبة للكاتب، هي وسيلة، شئنا أم أبينا، وهذا رأيي. فليس على الكاتب أن يجعلهاغايته، ويجب ألا يحدّ موهبته في كتابة لغة عظيمة. مع أنّه من الجميل أن نكتب لغة عظيمة، لكن يجب ألا تقود الصيغ الجاهزة الكاتب، بل يجب أن نعيد التفكير في هذه الصيغ اللغويّة التي ورثناها، وبالنتيجة التي أوصلتنا إليها.
ما أقوله لا يعني مطلقا هدم اللغة، ليست لديَّ أي مشاريع أو أحلام تقترب من هذا. فقط هي محاولة لإعادة التفكير في كيف نكتب من لغة. أرغب في لغة أهدأ وأبسط، بعيدًا من هذه “الدشم” و”الكتل” اللغويّة التي تربّينا عليها. فاللغة هي حياة لايمكن العيش بدونها، هي كل شيء: وسيلة التعبير والتفكير، هي حياة بأكملها. إذا لم يُعِد الكاتب اختراع لغته الخاصّة، أعتقد أنه لن يتمكّن من الوصول إلى غاية أو نتيجة، يعني يمكن للكاتب أن يكتب جملة وحيدة، لكنها تكفي، لن أقول للخلود، لأنه ليست لديّ أحلام بذلك، ولكن أن يقول لنفسه: حققت ما أريد.

■ ماذا تريد أن تقول من خلال اعتمادك هذا الأسلوب (غير المنتظم على المستويات كافّة) في دواوينك؟
– كل ما أفعله، أني أحاول من كتاب إلى آخَر أن أغيّر في طريقة الكتابة وحتى طريقة التفكير. من قال إنّ الشعر يجب أن يكون هكذا أوهكذا. لا أتحدّث هنا عن الوزن والقافية والتفعيلة أو عن قصيدة النثر أو سواها. أجمل ما في الشعر أنه لا يمكن تحديده فعليًّا. هناك نص، سواء أكان موزونا أم غير موزون، “يا إمّا بتحبيه أو ما بتحبيه”. حاولت بين الكتاب والآخر، أن لاأستسهل الأمور، كأن أتّبع الأسلوب نفسه. فهناك أناس يكتبون قصيدة واحدة من أوّل حياتهم إلى آخرها، أقصد أنّ لديهم أسلوبا واحدا. أما أنا، فأحبّ أن أغيّر في أسلوبي بين نتاج وآخر، قد يكون التغيير للأسوأ، لاأعلم، لكني لا أحب أن أبقى في مستنقع واحد، أحب أن أخرج من الرتابة دائماً، ولا أعلم إذا فشلت أو نجحت. أحبّ إعادة التفكير في ما سبق، والتفكير في شيء جديد ممكن أن يتطوّر، إلى غير ذلك. فكتاب “بورتريه لرجل من معدن” مثلاً، لا يشبه إطلاقًا “لا شيء أكثر من هذا الثلج”، هناك نص مختلف من حيث اللغة. تخليت عن تلك اللغة الجامدة في “بورتريه”، ولم أعد أكتب بها. بصراحة، كنّا ننطلق في جيلنا من أنّ النص النثري هو القصيدة.
عندما أتذكر ذلك، أضحك على نفسي، كيف أننا حاولنا بهذه الإيديولوجيا الشعرية التي كانت عالقة برؤوسنا في تلك الفترة، أن ننفي مجموعة كبيرة من الشعراء لأنهم لا يكتبون بالأسلوب نفسه. ما قمنا به كان خطأ، إذ هناك قصائد كلاسيكية مدهشة، وأنا، حاليًّا، أحبّ المتنبي أكثر من إيف بونفوا، في حين أنّ هؤلاء الشعراء والأسماء اللامعة الأجنبيّة، كانوا لي في الماضي، الحلم والقدوة. ولكن الآن، لا يعنون لي سوى أنني أترجم لهم، لأقدّم تجارب شعراء غربيين إلى القارئ العربي.أميل الآن إلى القصائد الكلاسيكيّة، وأصبح لديّ الكثير من علامات الاستفهام حول القصيدة الحديثة، القصيدة النثرية، لمافيها من “تخبيص”، ومن بينها القصائد التي كتبتُها، وأصبح الشعر بالنسبة إليّ الآن “أوسع بكثير”.

■ الصحافي والمترجم والشاعر والناقد. هل من توازن بين هذه الشخصيات الأربع الموجودة فيك؟
– اسمحي لي أن أجيب عن هذا السؤال بطريقة ثانية: هناك شاعر برتغالي أحبه كثيراً اسمه فرناندوبيسوا كتب بأسماء عديدة، لم تكن أسماء مستعارة؛ وإنّما اخترع شخصيّات أخرى وشخصيّات بديلة من شخصيّته الحقيقيّة. وكان كل شاعر يكتب باسم معيّن. أما أنا فلم أغيّر اسمي، بل بقيت محافظاً على اسكندر حبش، وإنما قدّمت في الصحافة عملًا مختلفًا عن عمل الترجمة، مختلفًا عن عمل الشاعر، مختلفًا عن عمل الناقد. ويمكنني أن أقول إنّها لعبة “بيسواويّة” مقلوبة بشكل من الأشكال.
سارة ضاهر
النهار

عن الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان

عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة UCIP الذي تأسس عام 1927 بهدف جمع كلمة الاعلاميين لخدمة السلام والحقيقة . يضم الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة - لبنان UCIP – LIBAN مجموعة من الإعلاميين الناشطين في مختلف الوسائل الإعلامية ومن الباحثين والأساتذة . تأسس عام 1997 بمبادرة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام استمرارا للمشاركة في التغطية الإعلامية لزيارة السعيد الذكر البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في أيار مايو من العام نفسه. "أوسيب لبنان" يعمل رسميا تحت اشراف مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان بموجب وثيقة تحمل الرقم 606 على 2000. وبموجب علم وخبر من الدولة اللبنانية رقم 122/ أد، تاريخ 12/4/2006. شعاره :" تعرفون الحق والحق يحرركم " (يوحنا 8:38 ).