في البدء
تُجابهنا اليوم تعقيدات الحياة بفروعها وساحاتها، بوسعها واختلافها، وأمامها تصيبنا الحيرة، وينتابنا اليأس، ويزداد همّنا ويثقل نير حياتنا ويعلن السؤال وجوده، ويدرك جيداً أن لا أحد يطلق عنان الجواب ليقول لنا من أين نبدأ وإلى أين ننتهي..هل نبدأ بالداعش وإرهابه، أم بالهجرة وضياعها، أم بالوطن الجريح ودمائه، أم بالنزوح وآلامه أم بالمستقبل وجهله أم باقتناء المال وفقدانه، أم بفساد الزمن وعقائده، أم بقتل الأبرياء وسياساته، فنحن نسأل اليوم ولا أحد يشفي غليلنا ولو بحقيقة بحجم الخردل تفرز مفارق حياتنا، وتهدّئ روعنا، ومسيرتنا ترسم الطريقَ التي نسلكها لعلّ وعسى سنجد ضالّتَنا ونعود إلى حقيقة إيماننا ومحبتنا لأرضنا، فترانا لا نعرف أين نمضي وأين هو الاتجاه، فنصاب بالأرق ليلاً من خوفنا وبالوهن والضياع نهاراً من عطبنا، وربما يصدق في ذلك ما قاله يوماً هنري كيسنجر:”إن كنت لا تعرف أين تريد الذهاب فكل طريق سيذهب بك إلى لا شيء”.
ساعة الحرب
نعم لأننا لم نكن نعرف أية طريق نسلك ولذلك لم نحصد غير الفشل وكل شيء توقف في مسيرة حياتنا. فساعة الحرب قد أُعلنت دقاتُها ضدنا وضد الإنسان والضآن وضد كل ما هو مسيحي ونصراني (هكذا أسمونا)، وبوق العساكر قد أعلن موافقتَه، وهاونات الشر بدأت تدكّ مرابَعنا وخرابها ملأ المسكونة وكل ذلك كان في مخطط لم نشهد له وكنا نائمين عن إدراك عمقه وأسراره وهاملين وقوعه، فأكلنا وشربنا ورقصنا وبنينا وزوّجنا وتزوّجنا وزرعنا وحصدنا، وكل شيء توقف وأزاد في فشلنا سؤالُنا لأنفسنا عن ماضي ارتكبناه بحقنا بعدما تركنا ديارنا وقُرانا ومساكننا وهرولنا مثل غنم أمام ذئاب الأصولية والإرهاب الشرير، وعصاباته وزواياه ، التي لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية والتي أجرمت بحقنا جميعاً يا أبناء أمتي.
وها نحن نلحف أرض الله الواسعة بِحَرِّها وبردها، بمطرها وثلجها، بقساوتها وعنفوانها، بجوعها وعريها، بغربتها وعبوديتها، وهذا ما يذكّرنا بربنا يسوع برفقة يوسف ومريم وصوت هيرودس يلاحقهم إلى حيث مصر الآمنة (متى 13:2)، مصر الفراعنة، إلهة النيل الأبدية، وفي كل ذلك أستُبيح قتلنا وهُدرت دماؤنا ونُهبت منازلنا وقُتلت مواشينا وأخرى بيعت في سوق نخاستهم وأسواق الحرامية وحلّلوا كل حرام فكانت آياته قد أُنزلت علينا ولكنهم لم يدركوا أن المسيحية لا تبالي بكنوز الأرض وخيرات الدنيا (متى 20:6) بل بحقيقة السماء وفي ذلك كانوا وسيبقون من الأشرار، ومع المسيح لسانُ قولهم يسمعهم “لرب السماء تسجدون وإياه وحده تعبدون” (متى 10:4).
الرب يرافقنا
من المؤكد أن المسيح الرب وقع مراراً تحت عبء الصليب (متى 32:27) لكنه لم يرزح تحت نير الألم ولم ييأس من أن قوة الله هي ثقته وإن الله معه على مواصلة الطريق، فكان ينهض ويتابع مسيرته. ولنعلم جيداً أن الرب يرافقنا على الطرق، والضعيف منا يحمله على كتفيه “فَكَتِفَي الرب القائم من بين الأموات مكان يتّسع للجميع” هكذا يقول القديس فرنسيس السالسي. فالوقوع _ كما حصل لنا في الهجرة الحالية والنزوح _ أمر طبيعي في محاربة الشر لنا والإرهاب ولكن ذلك لا يجوز أن يتركنا في اليأس أو يتحكّم بنا وفي جميع المجالات الوطنية منها والمهنية والعائلية والأخلاقية والروحية. فإيماننا يعلّمنا أنّ درب الصليب انتهت بالمسيح إلى القيامة، فإنْ شئنا أن يكون نصيبنا مثل نصيبه ينبغي أن يكون تحمّلنا مثل تحمّله إبتداءً من بستان الزيتون، إذ أن واقع موت المسيح على الصليب وقيامه يصيبنا جميعاً نحن الذين نحمل بذور الملكوت (متى 28:26-29). وبولس الرسول يقول:”إن مجد الله يتجلى في الصليب” (1كو 2:2-5)، والصليب هو قمة المحبة وحكمة الله ومحور الخلاص الذي هو نعمة الله المجانية للبشرية قبل مجيئه وفي مجيئه وبعده.
صليب المسيح
نعم، لنعلم جيداً أن شجرة الصليب تُغرَس في عظامنا اليابسة الجافة فنقول “لا للموت” لأن الصليب فينا ما هو إلا شجرة الحياة وثمارها الحب، والحب أقوى من الموت، والمسيحي هو الذي يحمل صليبه مع المسيح بروح الاشتراك في سرّ الفداء وبحمل صليب غيره، مثل المسيح، بروح التضامن والمحبة. وهو حينما يحمل صليب غيره يحمل صليب المسيح لأن صليب الغير وصليب المسيح صليب واحد. وعلى حد قول القديس أوغسطينوس “مسيح آخر” يحمل صليبه وصليب قريبه لأن صليب المسيح صليبنا وصليبنا صليب المسيح. ونحن، نعم، وإنْ كنا مهجَّرين نعرف أن الله أمين ولا يدعنا نُمتَحَن فوق طاقاتنا بل يجعل أيضاً مع المحنة مخرجاً لتستفيقوا أن تحتملوا (1كو13:10)… فلابدّ من حمل الصليب وعبور نفق الموت.
وصية جديدة
كثيرون يكفّروننا ويتاجرون بضمائر الشعب وكما يشاؤون، وكثيرون يتعاملون بشكل خبيث ليعيدوا غنائمهم المصلحية في الكذب والنفاق، في المراوغة والملاطفة، في الحيلة والمكر، في الحقيقة المزيفة والكلمة المنمَّقة، إنها تجارة بخسة ورسالة بائسة ومسيرة خاسرة وإن ثبتت أياماً وأشهراً وسنين ستنجلي الحقيقة وإن قالوها في المخادع، وستعلن على سطوح المنازل (لو12:3)… إنها أزمة عقل وضمير وجريمة إبادة الآخر في نشر القيم الفاسدة عبر قيادة مزيفة لدنيا الزمن والعولمة بسبب عيش البغضاء بدل أن نخرج من ذواتنا لنشهد لحقيقة الحقيقة ونذهب إلى الآخر المختلف عنا فكراً ونظرةً، والرب يسوع علّمنا أنه لم يثأر على ذاته إنما أعطى دماءه حُباً إذ قال:”أعطيكم وصية جديدة…” (يو34:13). ومهما يكن سنبقى نختار هدفاً، وهدفنا ما هو إلا عودتنا إلى أرضنا. فنحن لا نريد أن نبقى قضية كبقية القضايا التي حيكت من أجل تدمير الشعوب، بل نختار هدفاً يستحق منا العناء والدماء والفداء، هدفاً يحمل معناه وحقيقته في رجالٍ أشدّاء حاملين الشجاعة والأمانة والوفاء، أمام رجال يحملون أسماء بلا حقائق وشهادات بلا وقائع، وعلامات مزيفة بلا ضمير، ويرفعون أصواتهم بضاعة أمام قوى الزمن “اقتلوهم إنه معارضون… إنهم نون” في غيرة ضد الأصلاء والأصيلين، فالمسيحي مدعو أن ينخرط ويتقوى لا أن يسامح ويبتعد، ولا أن يُهمَّش لمجرد مهاجتمه.
خسارة ارضنا
مهما كانت الذاكرة المسيحية مجبولة بالمآسي والاضطهادات فهي مدعوّة إلى تذكّر العلامات المضيئة في التاريخ، فالرب يصنع الصلبان لكنه يصنع معها الأكتاف. لنستذكر القديسة شموني وأولادها السبعة والتي استشهدت في زمن الطاغية أنطيوخس ملك أنطاكية وبعد أن رأت بأَمِّ عينها الطاغية وهو يعذّب أولادها ويقتلهم، كَبُرَ إيمانها وتشجعت إرادتها وأدركت أن تلك صلبان الرب لها أكتاف الحياة، فقد شهدت أنها امرأة جبارة في إيمانها وثباتها وعاطفتها بعمق روحانيتها… ويكفي أن يحمل المؤمن اسم المسيحي حتى يصبح حمل الاسم تحدياً له ولمعنى حياته، وفي هذا كله يكون التاريخ شاهداً لعدم خسارة أرضنا. فكبار الزمن ومخططاتهم ما هي إلا خسارة أرضنا. إنه ابتزاز دنيء، فدماؤنا في كنيسة سيدة النجاة لم تنشف ودموعنا لم تنقطع،ورسالتنا كانت شهادة شاهدة ليس إلا، فأين المنطق والإنصاف إذا كنا فقط نولول ونثرثر من على ما يكروفونات الزمن، فالتنظيم الإرهابي يهجّرنا وآخرون يفتحون أبوابهم لترحيلنا والغاية الوحيدة التي ننشدها هي العودة إلى ديارنا وهذه هي المسؤولية الحقيقية، أن لا نبيعَ أرضنا، لذلك يقول البابا فرنسيس:”ما أراه اليوم أن يسوع يبكي، فقد قفلنا قلوبنا وقلوب رعاة الكنيسة في وجهه” (20 نوفمبر 2014، قداس في سانتا مرتا).
علاقة وحوار
لتدخل الكلمة أعماقنا، فنلمس حقيقتها ودفئها وعنوانها، فنقبلها ونستسلم بثقة لإلهنا ليحقق فعله الخلاصي من خلالنا، لأن إلهنا لا يريد تحقيق فعله الخلاصي لحياتنا لوحده بل يريد أن يشارك الإنسان في ذلك لأنه مبادرة مجانية وبدون استحقاق منا وبقبول حُرّ من الإنسان. لذا علينا أن نبدأ بمعرفة مَن نحن وحقيقة الإله الذي يطرق أبوابنا ليهذّبنا ويرينا ثقل النير وكنوز السماء فنريه همومنا وآلامنا ومعاناتنا إنْ كنا في الخيم ساكنين أو في الكرفانات لاجئين أو في عمارات عارية أو في فنادق عامرة أو مهجَّرين بعد أن تركنا دورنا ومنازلنا ومقتنياتنا وأحلامنا ونجونا بأنفسنا، ونسينا أن أبوابنا لا زالت مغلقة أمام الرب ولا أحد يفتح له، وهاهو يبكي، فهو يمثّلنا في هجرتنا ونزوحنا من أجل أن يهذبنا ويرينا ويسمعنا أنه “هو الطريق والحق والحياة” (يو6:14).
فاليوم نحن مدعوون إلى أن ندخل في علاقة مع الآخرين، فالحوار الذي دار بين الرب يسوع وإبليس بعد أن صام أربعين يوماً كان حوار الحقيقة والإيمان وهُزم الشر وللرب سُجد وله تجب العبادة (متى 10:4)، وبئس مَن يبني جدراناً فاصلة بدل الجسور الموصِلة، وبئس مَن يعتبر نفسه إله الدنيا وينسى أن يقيم علاقات الحوار. وبئس مَن يقتل الحقيقة بضمير الفساد، وبئس مَن يحصد المصالح بمناجل الاشرار، والعلاقة الصحيحة ما هي إلا أن نكون مثل إلهنا، أن نطرق أبواب الأخوة المختلفين، وهذه هي المتعة الحقيقية في الحياة، في أن تكون مشغولاً بهدف تعرف أنه ذا قيمة كبيرة بدلاً من أن تكون كتلة أنانية صغيرة من الأوجاع والمظالم شاكياً أن العالم لن يكرّس نفسه من أجل سعادتك” (جورج برناردشو).
هذا ما حصل
خائفون، هكذا هُزموا من أرضهم وديارهم وقُراهم وسكناهم، كل شيء توقف في مسيرة حياتهم بعد أن تركوه خوفاً وفزعاً من الإرهاب الشرير. وها هم اليوم في أرض الله الواسعة… نعم، أيها المهاجرون، ظروف الغدر أجبرتكم على النزوح هرباً من عصابات لا تعرف الرحمة ولا الإنسانية، وأجرمت بحقكم يا أبناء أمّتي، آلاف العائلات قُتلت ودُمِّرت واستُبيحت أرضكم وسُبيت غنائمكم وكريماتكم، فهم ليسوا إلا وحوش كاسرة لا تنشد إلا الموت والشقاء، ففيهم مات كل شيء لأنهم لا ينتمون إلا إلى إرهاب وما ذلك إلا ضعف حياتهم.
نعم، لقد كانت قُراكم ومدنكم هي تاريخكم ومسيرتكم الإيمانية هي ماضيكم وحاضركم ومستقبلكم كما كانت مستقبل أجيالكم… نعم، تركتم مدنكم بعيونٍ تبكي دموعاً وحزناً على مواطنيكم وأرضكم وتاريخها، إذ ليس من السهل مغادرة أرضكم جبراً وقسراً لكي تفترشون الحدائق والأرصفة والعراء بعد أن سرقوا أموالكم وخزائنكم وأكياس معيشتكم وحتى بطاقات تعريفكم… فالوحوش الكاسرة كفّرتكم وحلّلت أموالكم غنائم، والحقيقة ما هم إلا سرّاق، وما حلّ بكم إبادة جماعية، لم يشهد العراق على مرّ العصور والأزمنة مثل الجرائم التي أُرتكبت بحقكم… إنه الإجرام بعينه. واعلموا أن الحقيقة لا تموت وإنْ باعها كبار الزمن لمصالح لهم ولأتباعهم، وما هم إلا ذيول الرذيلة المزيفة الذين يخدّرون شعوبهم بكلمات منجدية بعمق شرتونيتها، ويعتبرون ذلك أنه السراط المستقيم، بينما حقيقة الحياة لا تكمن إلا في خلع أثواب ملوكيتنا كي نعيش فقرهم وعوزهم، ونعاني برداً وعُرياً وخوفاً، وليس تمنيات وبيانات ودعوات، بل شهادات وحقائق، وإن حصل ما حصل، “وإنْ وقعنا سنقف ثانية” كما يقول المثل الياباني، المهم أن لا تفترّ رغبتكم، عليكم أن تتمسكوا بالصلاة وبالحوار مع الله، وهذه هي الشهادة الأمينة ليس إلا!. أن نكون طلاباً تحت أقدام الصليب.
الخاتمة
نعم، هذه شهادتنا ليست إلا. فانتبهوا يا أبناء جلدتي، أحملوا إيمانكم في آنية من خزف (2كور 7:4) وعيشوا حقيقة مسيحيتكم في لقاء الألم، وقولوا الحقيقة في وجه كبار الزمن، وثعالب الحياة، وحيتان الفساد، وبائعي الإرهاب والشر، ومعلمي الطائفية والمحاصصة والمحسوبية ، كما قال ربنا يسوع يوماً لهيرودس:”إذهبوا وقولوا لهذا الثعلب” (لو32:13)، وما أكثر اليوم ثعالب زمن الإرهاب ، وحيتان الفساد ، نعم وما أكثرهم. ولا تخافوا أن تجعلوا صليب الرب يسوع مرافقاً لمسيرتكم ، فما أنتم إلا تلاميذه ، آمنوا بأن الحقيقة لا تموت، إننا سنرجع يوماً إلى ديارنا، نعم ونعم إلى ديارنا ، وهذه حقيقة إيماننا بصليب ربنا يسوع… نعم وآمين.
(24 فبراير 2015) © إينّوفاتيف ميديا إنك.
بقلم