الله ليس إله قوم من دون قوم. الله لا ينتمي إلى أيّ قوميّة في العالم. الله ليس له شعب مختار. كلّ مَن يقبل الله ربًّا وإلهًا يكن من شعب الله المختار. ليس الله إرثًا عائليًّا أو سلاليًّا أو قوميًّا تتوارثه الأجيال كما تتوارث أملاكها المنقولة وغير المنقولة. الله ليس مُلكًا لأحد، وهو في الآن عينه، مُلك لكلّ إنسان.
ليست خطيئة “شعب الله المختار” أنّ هذا الشعب اختار الله إلهًا له. خطيئته هي أنّه أراد احتكار الله له. جعل هذا الشعب، المسمّي نفسه مختارًا، الله إلهًا حصريًّا. قزّمه، صغّره، حجّمه إلى مستوى إله قبيلة، هو إله العالمين وإله المشارق والمغارب. الخطيئة تكمن في ألاّ ترى الله إلاّ إلهًّا خاصًّا بك يأتمر بأوامرك، يقاتل عنك، يلبّي شهواتك، يسارع في هواك…
جاء المسيح ليقضي على حصريّة الله. قتله شعب الله المختار لأنّهم أدركوا أنّ هذا الشخص خطر على عنصريّتهم وكراهيّتهم للأمم الأخرى. قتله شعب الله المختار، أي شعبه الخاصّ. فإذا لم يلبّ الله شهوات شعبه، يقتله شعبه. وهذه التجربة لـمّا تنتهِ بعد. الله ما زال يقتله شعبه، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
“ما من نبيّ يُقبل في وطنه”، “لا كرامة لنبيّ في وطنه” وفق ترجمة أخرى، قال السيّد المسيح. هو كان يعرف مصيره. لم تكن ثمة مشكلة ما بين المسيح والأمم الأخرى، كانت المشكلة مع أهل بيته وقومه. لذلك قال إنّه أُرسل أوّلاً إلى الخراف الضالّة من بيت إسرائيل. أراد أن يردّهم عن ضلالهم وأن يفتح الدعوة إلى كلّ بني آدم من دون استثناء. قتلوه لأنّهم فضّلوا أن يبقوا على ضلالهم وكبريائهم القاتلة.
حين جوبه المسيح من بني قومه، قال لهم: “ما من نبيّ يُقبل في وطنه”، ثمّ أعطى مثالين عن القدّيس النبيّ إلياس والنبيّ أليشع: “كان في إسرائيل كثير من الأرامل في أيّام إيليّا، حين احتبست السماء ثلاث سنين وستّة أشهر، فأصابت الأرض كلّها مجاعة شديدة، ولم يُرسل إيليّا إلى واحدة منهنّ، وإنّما أُرسل إلى أرملة في صرفت صيدا. وكان في إسرائيل كثير من البُرص في زمن النبيّ أليشع، فلم يبرأ واحد منهم، وإنّما برئ نعمان السوريّ” (لوقا 4، 23-27).
ليس عند الله، إذًا، تفضيلاً لبني قوم على بني قوم آخرين. أنقذ إلياس الأرملة الغريبة عن قومه وابنها من الموت جوعًا، وشفى أليشع الأبرص الغريب من مرضه. لكنّ هذا أيضًا لا يعني تفضيلاً من الله للأرملة الصيداويّة وللأبرص السوريّ على سواهما من الأمم الأخرى. لم يستبدل الله اللبنانيّة والسوريّ بالشعب الذي كان يعتبر نفسه مختارًا. لم يصبح الشعب اللبنانيّ أو الشعب السوريّ وحدهما مختارين من دون سواهما من الشعوب الأخرى. بل أراد الله عبر هاتين الحادثتين التأكيد على أنّ رحمة الله تسع كلّ الناس من كلّ أمّة على وجه الأرض.
ماذا كانت ردّة فعل الجمهور على كلام يسوع؟ “فثار ثائر جميع الذين في المجمع عند سماعهم هذا الكلام. فقاموا وأخرجوه إلى خارج المدينة وساقوه إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنيّة عليه ليلقوه عنه، لكنّه مرّ من بينهم ومضى” (لوقا 4، 28-30). ثار الشعب ضدّ يسوع علمًا أنّه لم يفعل شيئًا سوى تذكيره بحادثتين مذكورتين في الكتاب المقدّس. يقدّسون الكتاب عندما يتناسب مع شهواتهم، ويحاربون مَن يدعوهم عبر تذكيرهم بتعاليم الكتاب المقدّس إلى العمل بما لا يتناسب مع أهوائهم.
لن يطلّ الله على المسيحيّين وحدهم، ولا على المسلمين وحدهم. لن يطلّ الله على اللبنانيّين وحدهم، ولا على السوريّين وحدهم. فكما نظر، أيّام العهد القديم، إلى المنبوذين، سوف ينظر إلى منبوذي أيّامنا. سوف ينظر إلى البائس والمسكين، إلى الأرملة واليتيم، إلى النازح واللاجئ… لن يطلب من أحد تذكرة هويّته ولا إخراج قيده ولا جواز سفره، هذه عنده تفاهات الناس… لن ينظر إلاّ إلى العيون العطشى إلى رحمته تعالى.