بقلم د. ايلي مخول
تحكي مئات الأساطير في إفريقيا وآسيا وأوروبا عن ملكة سبأ الغامضة. البعض يصفها بأنها صورة من بديع الحُسن، شديدة الذكاء ومُتخَمة بالمال، لها رغبة ملحَّة في نيل الحكمة. ويرى فيها البعض الآخر جِنّيَّة الصحراء. يصف العهد القديم زيارتها لسليمان الحكيم، ويشير العهد الجديد إلى أن “ملكة الجنوب تقوم يوم الحساب مع هذا الجيل وتحكم عليه، لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وهنا الآن أعظم من سليمان” (لوقا 31:11). حتى العام 1976، استمدت العائلة الإمبراطورية الإثيوبية شجرة عائلتها من ملكة سبأ الأسطورية، حتى أنها أضحت بالنسبة للسود رمزًا للتحرر والإنعتاق من العُبودية. من كانت هذه المرأة الملكية الغامضة التي صنعت تاريخ العالم بهذه الطريقة غير العادية؟ شخصية أسطورية أم شخصية تاريخية؟
منذ آلاف السنين تتحرك قوافل وافرة الحمولة من “بلاد العرب السعيدة” شمالاً؛ وهي ذائعة الشهرة في مصر واليونان والإمبراطورية الرومانية. ومعها تسري أخبار عن مدن رائعة ومقابر تعجّ بالذهب وتطوف في عناد كالشبح عَبر العصور. الإمبراطور الروماني أوغسطس (63 ق.م – 14 م.) أراد أن يبحث عن حقيقة الأمور التي يعتزّ بها سائقو الجمال مِرارًا وتَكرارًا فيما يخُصّ وطنهم البعيد. فعَهِد إلى إليوس غالوس بتجهيز حملة عسكرية والتثبّت محلّيًا في الجنوب العربي من صِدق الحكايات العجيبة. انطلق غالوس مع جيش من 10000 محارب روماني، من مصر جنوبًا، وسار على طول ساحل البحر الأحمر المقفر. وجهته كانت مأرب، مركز القصص الخرافية. إلاّ أنه لم يبلغها قط. ذلك لأن القوات الحربية الجبّارة قد هلكت في حرّ الصحراء القاسي وفي مذابح لا حصر لها مع قبائل منعزلة، وتكبدت خسائر فادحة بفعل الأمراض الخبيثة. أمّا القلّة من الناجين الذين رجعوا إلى ديارهم فلم تكن لديهم معطيات موضوعية أكيدة تضاف إلى القصص الخرافية حول “العربية السعيدة”.
كتب اليوناني ديونيسيوس عام 90 للميلاد: “في العربية السعيدة” تتنشق دائمًا الروائح العِطرية الزكية للتوابل اللذيذة التي تفوح سواء من البخور أو من المُرّ الرائع. سكانها لديهم قطعان كبيرة من الأغنام في المراعي، والطيور تطير إلى هناك من الجزر البعيدة حاملة أوراق القرفة النقية “.
كان الجنوب العربي في العالم القديم الإقليم الأول لتصدير التوابل وظل كذلك حتى يومنا هذا. ومع ذلك بدا على الدوام وكأنه محاط بسِتْر ظليل ومنطوِ على الأسرار. لم يره أحد من قبل بأم عينيه. وظل “جنوب الجزيرة العربية” مبهَمًا! أمّا في العصر الحديث فكان أول من انطلق في هذه المغامرة الخطيرة الألماني كارستن نيبور، الذي قاد رحلة استكشافية دانماركية إلى جنوب شبه الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر. هو أيضا لم يصل إلى أبعد من صنعاء. ولم تكن تفصله عن خرائب وأنقاض مدينة مأرب سوى 100 كيلومترعندما اضطر للعودة على عَقِبيه.
الفرنسي جوزيف هاليفي والنمساوي د. إدوارد غلازر كانا أول رجلين من ذوي البشرة الفاتحة حققا بالفعل منذ حوالي 150 عامًا الهدف القديم. ونظرًا لأنه لم يُسمح لأجنبي، ناهيك عن أوروبي، بعبور حدود اليمن ولم يتم الحصول على إذن بذلك، أقدم هاليفي وغْلازر على المخاطرة بحياتهما. فاستأجرا مركبًا شراعيًا وعبرا خِفية خليج عدن ونزلا إلى البَر متنكرين في ملابس البدو. بعد رحلة مضنية سيرًا على الأقدام امتدت لأكثر من 100 كيلومتر فوق جبال بُور وقاحلة، وصلا آخر الأمر إلى مأرب. كان تأثرهما شديدًا بما وجداه، وتجاهلا كل حِيطة وحذر وتسلّقا في كل أنحاء الأنقاض. إقترب الأهالي بارتياب شديد. أدرك الباحثان أن حياتهما في خطر بمجرد انكشاف سرّهما من خلال مناورة التمويه. فما كان منهما إلاّ أن فرّا هاربَين. وبعد اعتماد طرق ملتوية غير مباشِرة مليئة بالمغامرات، إقتحما طريقهما أخيرًا إلى عدن. وتمكنا من تهريب نسخ من النقوش ومدونات أخفياها تحت برنسهما، لكي يثبتا للعالم بواسطتها: مأرب موجودة بالفعل!
في وقت لاحق جلب تجار معهم بواسطة القوافل نقوشًا وكتابات. وهكذا توفّرت على مدار السنين حتى اليوم، طائفة ضخمة من 4000 قطعة. وقام علماء بتفحص المواد بدقة. الكتابات هجائية (مركّبة أبجديا). إذن هي من فلسطين. تحكي النقوش والكتابات الدينية عن آلهة وقبائل ومدن مليونية. وهذه أسماء أربع دويلات – “ممالك البهارات” المذكورة: معين، قتبان (قطبان)،حضرموت و- – – سبأ!
تقع مملكة معين (معن) في اليمن الشمالي وتم توثيقها حتى القرن الثاني عشر ق. م. تتحدث نقوش وكتابات من القرن التاسع قبل الميلاد عن جارتها الجنوبية، دولة السبئيين. كذلك تروي وثائق أشورية من القرن الثامن قبل الميلاد عن سبأ وعلاقة تجارية متينة مع هذا البلد، الذي أطلق على ملوكه اسم “مكرّب” أي القريب من الله (أو المكاربة)، “أمراء الكهنة”.
هكذا تبلورت شيئًا فشيئا سبأ الأسطورية بفضل الوثائق التي عثر عليها.
أقيم سد ضخم لحجز مياه نهر أذَنَة (أدانا) في سبأ وجمع الأمطار من كل فَجِ عميق لجرّها في أنظمة الري، والتي كانت البلاد مدينة لها في خصوبة تربتها. بقايا أسوار هذه الرائعة الفنية، التي يبلغ ارتفاعها عشرين متراً، لا تزال صامدة في وجه الكثبان الرملية للصحراء حتى اليوم. وكما أن هولندا في العصر الحاضرهي بلد السوسن (زهور التوليب)، فإن سبأ حينذاك كانت أرض التوابل، حديقة ساحرة مزهرة وحيدة، معطرة لأشهى بهارات العالم. في وسطها كانت تقع الحاضرة المسمّاة مأرب. فعلى مدى ألف وخمسمائة سنة ازدهرت حديقة التوابل حول مأرب. حتى عام 542 م. – ثم انكسر السد. فاجتاحت الصحراء بلا هوادة الأرض الخصبة ودمرتها. جاء في القرآن الكريم: “ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وحدها الثمار المرة نمت بعد ذلك في حدائق سبأ. في العام 1928 إستخرج العالمان الألمانيان كارل راتيينز وهِرمان فون فيسمان بالحفر معبدًا وملحقاته بالقرب من صنعاء، كان مواطنهما نيبور أول من رآه. بداية مهمة، إلاّ أن الأمر تطلب ربع قرن آخر، عندما قام أكبر فريق من الخبراء قبل نهاية 1951 برحلة إستكشافية لحل ألغاز سبأ الأثرية. “المؤسسة الأميركية لدراسة الإنسان” وضعت بتصرف البعثة أموالا طائلة تجاوزت المألوف. نظم الرحلة الإستكشافية عالم المطمورات متعدد الجوانب كثير المواهب ويندل فيليبس، البالغ من العمر 29 عامًا من جامعة كاليفورنيا. في مفاوضات طال أمدها، أمكن الحصول على إذن للتنقيب في مأرب من الملك الإمام أحمد. تقع مأرب في الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة العربية على ارتفاع حوالي 2000 متر في الخاصرة الشرقية لسلسلة الجبال العربية على البحر الأحمر. وبدأ الباحثون أعمالهم بتشوّق وانتظار كبيرين.
إنطلقت قافلة طويلة من سيارات الجِيب والشاحنات، شمالًا عبر أرض صحراوية وعْرة المسالك عديمة الجسور وقد لفّتها سُحب من الغبار. مثل الشبح، ظهرت فجأة أمام الرجال خرائب وأنقاض وأعمدة عظيمة وقد خرجت من بين الكثبان الصفراء المتلألئة – إنه محرم بلقيس! هذا هو معبد أوام ألمقة القديم في أوم، مكان عبادة أسطوري بالقرب من مأرب، عاصمة مملكة سبأ العربية القديمة. مع أن معالم المعبد البيضوي الشكل الذي يزيد طوله عن 110 أمتار بدأت تتراءى جزئيا، فقد أمكن التعرف عليها بشكل واضح. المعبد شبيه بأطلال موزمبيق في أدغال شرق إفريقيا، حيث كان يجري البحث عن منطقة أوفير التوراتية. وتتطابق المساقط الأفقية لكلا مكانَي العبادة بشكل ملفت للنظر!
يُفيد إحد النقوش الجدارية أن إله القمر ألمَقَه كان يعبد في محرم بلقيس. وقد طمرت كتل رملية المعبد في منتصفه. لذلك جرى في بادئ الأمر وضع الرفوش عند مدخل المعبد. من هناك يريد الباحثون الإقتراب منه شيئا فشيئا.
تحت تأثير الحرارة المحرقة كان من الطبيعي أن تتوتر النفوس حين تم الكشف عن بوابة الحراسة الخارجية الفائقة الروعة والجمال. بضع درجات عريضة مغطاة بالبرونز تؤدي إلى الداخل. الفِناء محاط برُواق من الدعائم. فيما مضى حملت الأعمدة الحجرية التي يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار السقف المُظِل. طريق الطَّواف (الموكب) التي اصطفت الأعمدة على جانبيه كانت تُوصل من هنا إلى حرم إله القمر. نظام زُخرفي غريب يثير الدهشة. ويعتقد أن ينابيع المياه كانت تتلألأ على ارتفاع خمسة أمتار فوق الفناء الهادئ. كما ان المياه المتدفقة كانت تُحبس وتُسال في قناة ضيقة ومتعرجة ثم تُجرّ عبر الفناء ذي الأعمدة.
بماذا كان يشعر الحجاج أثناء مرورهم أمام النوافير المتألقة المصِمّة للآذان، التي تذكيها رائحة اللبان والمر، عبر أروقة الأعمدة في هذا الأثر الأروَع بالجزيرة العربية القديمة!
كانت الأعمدة على بعد أمتار قليلة من المعبد عندما لاحظ الباحثون أمامهم بوابة المعبد الرائعة، المحصنة ببرجين مَشيقَين، – فكان لا بد من إيقاف الحفريات في الحال. وعلى مدى اسابيع تفاقمت المضايقات من جانب محافظ مأرب بشكل خطير. لم يعودوا واثقين من حياتهم. فغادروا المكان مغادرة الهارب تاركين كل شيء وراءهم. لحسن الحظ أن بعض الصور الفوتوغرافية كانت من بين القليل الذي أمكنهم إنقاذه لدى هروبهم بسرعة.
في السنوات التي تلت ذلك، تم تنفيذ ثلاث حملات تنقيب في حضرموت المجاورة، توجت بنجاح أكبر.
كان البروفسور وليام فوكسويل أولبرايت (24 أيار 1891-19 أيلول 1971) عالم آثار أميركيًا وباحثًا توراتيًا وعالمًا متعدد اللغات وخبيرًا في الخزف قادرًا على مناقشة نتائج البحث لهذه الرحلات الاستكشافية الأربع القصيرة والمثيرة في بعض الأحيان. بعد أن بدأوا في تقييم المواد لاحظوا: “إنهم على وشك إحداث ثورة في معرفتنا بالتاريخ الثقافي والتسلسل الزمني لجنوب شبه الجزيرة العربية. وتظهر النتائج المتاحة حتى الآن الأسبقية السياسية والثقافية لسبأ في القرون الأولى بعد 1000 قبل الميلاد.”
كما أسفار الملك سليمان البحرية البعيدة عبر البحر الأحمر إلى شبه الجزيرة العربية وإفريقيا، كذلك الرحلات الطويلة براً على طول البحر الأحمر عبر بحر الرمال بدأت من الجنوب. “شاحنات المسافات الطويلة” الجديدة كانت عبارة عن جمال – وليس من قبيل الصدفة أن يطلق عليها “سفن الصحراء”. في البر قطعوا الآن مسافات كان يبدو عبورها في السابق متعذرا. بدأ تطور لم يسبَق له مثيل لحركة المرور والنقل عبر مناطق شاسعة مقفرة مع ترويض وتربية هذه الحيوانات الصحراوية حوالي 1000 قبل الميلاد. فاقترب جنوب الجزيرة العربية الذي كان بعيدا أيّ بُعد لفترة طويلة من البحر الأبيض المتوسط وأقام بالتالي علاقات أوثق مع سائر ممالك العالم القديم. وكما اقتربت أميركا فجأة من أوروبا باستخدام طائرات سريعة عبر المحيط، كذلك كان الأمر آنذاك، مع جنوب شبه الجزيرة العربية والعالم القديم وإن بمعايير مختلفة.
شرح الصورة: وَسَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَأَ عَنْ شُهْرَةِ سُلَيْمَانَ، فَجَاءَتْ إِلَى الْقُدْسِ لِتَمْتَحِنَهُ بِأَسْئِلَةٍ صَعْبَةٍ. وَدَخَلَتْ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ جِدًّا، وَمَعَهَا جِمَالٌ مُحَمَّلَةٌ بِأَطْيَابٍ وَذَهَبٍ كَثِيرٍ وَجَوَاهِرَ. 2. أخبار. 9، 1