حجارته القديمة تحضنها أشجار السنديان الدهرية العتيقة على ارتفاع نحو 350 مترا عن سطح البحر عند سفح تلة تشغلها بلدة الحويش المطلة على سهل عكار الفسيح، وعلى احدى الطرق الجبلية التي تربط بلدة رحبة بقرى وبلدات جرد القيطع، لا تزال اطلال دير آبيا صامدة حتى اليوم. كما ان مذبح الكنيسة المفتوح مباشرة على الفضاء تظلله اغصان اشجار سنديانات عمر بعضها من عمر هذا الدير الذي لا يزال مقصدا للمؤمنين من مختلف المناطق، يؤمونه ويطلبون شفاعة السيدة العذراء مريم، ويضيئون الشموع حيث رائحة البخور عالقة على نسيمات الهواء واوراق السنديان تعطر اجواء الدير المهمل كما بقية المواقع الاثرية والتاريخية القديمة في هذه المحافظة المحرومة.
دير آبيا هو عبارة عن عقد حجري لمذبح كنيسة قديمة حافظت على اساسات هيكلها وبعض جدرانها الخارجية السميكة المبنية من الحجر الابيض الذي تحول مع الزمن الى اللون الاسمر الداكن ويقصدها المؤمنون في 15 آب من كل سنة للاحتفال بعيد السيدة، التي بنيت على اسمها هذه الكنيسة المرج تاريخها للعصور المسيحية الاولى .
“دار التعزية”
الباحث انور صابر يقول ان تاريخ بناء الكنيسة يعود الى اواخر القرن السادس وبداية القرن السابع الميلادي وربما كان اسمها دربيا، ثم جرى تحويله في اللهجة الشعبية المحكية الى الاسم المعروف حاليا بـ”دير ابيا” ومعناها في اللغة الارامية “دار التعزية”، وهي تسمية تطلق عادة على السيدة العذراء التي توصف في الصلوات بـ”معزية الحزانى”. ولهذا، فإن هذه الكنيسة تحولت مزاراً تقصده النساء الحزانى المتشحات بالسواد، خصوصاً في عيد السيدة ايفاء لنذورهن، ويطلبن الرحمة والغفران.
ورغم الأعوام الطويلة على عمر هذه الكنيسة، الا انها حافظت على تماسك بعض جدرانها المشغولة من الحجارة البيضاء، لكن بترتيب ظاهر واناقة لافتة، لا سيما قبة المذبح القائمة عند الجهة الشرقية للكنيسة، وهي معقودة الحجر صغيرة الحجم ومتناسبة مع مساحة الكنيسة التي لا تتعدى الـ24 متراً مربعاً من الداخل. بابها مفتوح في وسط جدارها الجنوبي وتتوزع الجدار الى جانبي المذبح لجهة صحن الكنيسة فتحات عدة مربعة الشكل، اثنتان من كل جانب ربما استخدمت لخزن البخور والشموع.
بنيت الكنيسة على ادنى مستوى من سطح الارض بمعدل نصف متر تقريبا، وما تبقى من جدرانها الظاهرة فوق الارض يرتفع حتى حدود المتر تقريبا من الجهات الثلاث الجنوبية والغربية والشمالية، في حين ان جدارها الشرقي يرتفع حتى حدود الـ150 سنتيمترا ليصبح ارتفاع الكنيسة في هذا المكان بحدود 3 امتار، وربما كان هذا هو ارتفاع الكنيسة الاساسي يوم بنيت. ولم يعثر في محيطها على اي اثر لسقفها المهدم كليا والذي يعتقد بأنه كان من الخشب.
يشار الى ان حجارة الجدران بمداميكها الخارجية اكبر بكثير من حجارة جدرانها الداخلية واكثر اناقة وترتيباً. والكنيسة ومحيطها المليء بالمدافن المحفورة في الصخر عبثت بها ايادي اللصوص والمنقبين غير الشرعيين وهي في حاجة الى معاينة جدية من خبراء مختصين لتحديد هويتها والعمل على اعادة ترميمها بالشكل الذي يتلاءم مع تاريخها وطابعها الهندسي الخاص.
إعادة الترميم أولوية
كاهن رعية الحويش المارونية المونسنيور الياس جرجس، لفت الى اهمية هذا المزار بالنسبة الى ابناء المنطقة عموماً وابناء بلدة الحويش الذين يتميزون بوحدة عيش ابنائها المسلمين والمسيحين.
واكد ان اعادة ترميم مزار السيدة العذراء المعزية من ضمن اولويات عمل مجلس رعية هذه البلدة التي يعيش القسم الاكبر من ابنائها في بعض المدن وفي المهجر، فيما آثر نحو 50 شخصاً التشبث بأرضهم والبقاء في بلدتهم، في حين ان عدد الموارنة من ابناء البلدة يبلغ نحو 250 شخصاً.
وأضاف “عملنا على بناء كنيسة جديدة على اسم السيدة العذراء الى جانب المزار مباشرة، وتم تكريس هذه الكنيسة ببركة رئيس اساقفة طرابلس المارونية المطران جورج بو جودة. واننا نتطلع الى اليوم الذي تقوم فيه وزارة الثقافة عبر المديرية العامة للاثار بالاهتمام بهذا المعلم الديني التاريخي والاثري القديم جدا، وتتولى اعادة ترميمه وتأهيله من جديد كي يحافظ على هيبته ووقاره ورونقه الذي كان عليه مذ انشائه”.