الانجيل، فرصة لنلمس قلب الله الرحيم والشفوق، من خلال موقف ابنه يسوع المسيح من الجمع الذي كان يتبعه، وخاصة نحن نعيش في سنة الرحمة كما سماها قداسة البابا فرنسيس… يقول الانجيل: “فلما نزل إلى البر، رأى جمعاً كثيراً، فأخذته الشفقة عليهم، فشفى مرضاهم” (متى ١٤: ١٤).
موقف الله من الإنسان دائماً يتصف بالرحمة والشفقة، وهو ليس موقفاً نظرياً، أي التزاماً كلامياً بالقول فقط، وإنما التزاماً فعلياً في مسيرة الانسان، فالإنجيل لا يقول ان يسوع، ابن الله وصورته، أشفق عليهم فقط، وإنما أيضاً، شفى مرضاهم. يعني ان الله هو حاضر مع الإنسان قولاً وفعلاً وللأبد… وهذا ما نلمسه من الحضور الإلهي الأمين خلال قراءتنا لمسيرة الله مع الانسان على طول صفحات الكتاب المقدس. وهو من جوابه لموسى عندما سأله عن اسمه، قال له: انا إله إبراهيم واسحق ويعقوب (خر ٣) نعرف ان الله كان ملتزماً مع هؤلاء الآباء الثلاثة وصنع فيهم ومن خلالهم العظائم وسيكون ايضاً ملتزماً مع كل البشرية… إنه الاله الذي لم يعط لموسى اسمه، لأنه لا يتحدد باسم معين، ولا يمكن ان يكون مجرد اسم، وانما هو دائماً حضور حقيقي وفعّال في حياة الإنسان.. لماذا؟ لأنه يحب الإنسان، ويشفق على الانسان الواقع في حبائل الخطيئة، فيريد ان يحرره من عبودية الخطيئة، ليكون لله… وهذا ما جسده يسوع أبن الآب أيضاً، فهو يعمل اعمال الآب، يشفق على الجموع، وكترجمة لهذا الإشفاق، يشفي مرضاهم. وليس هذا فقط، وانما سوف يعلمهم كيف يحيوا حياة حقيقية ليس بالجسد فقط، وانما بالروح أيضاً، عندما سيعلمهم ان يتقاسموا بركته فيما بينهم ليحيوا علاقة حقيقية معه ومع بعضهم البعض من خلال تكثير الخبز والسمك.
هذه المسيرة، مسيرة الله مع الانسان، لا يقوم فيها الله بعمله لوحده، بل يشرك الإنسان معه ليصل إلى الإنسان المحتاج والخروف الضال. وهذا ما نراه في النص، فيسوع يشفق على الجموع، ولكنه يتحرك إلى الذين اختارهم، إلى التلاميذ، ليعاونوه في تلبية حاجة الجموع الجائعة، ليساعدوه في عيش اشفاقه على الناس… فالإنسان امام الله، ليس مستلماً سلبياً للخلاص، وانما حركة فعالة يقوم بها الإنسان كجواب حقيقي على إيمانه بالله. ولهذا يقول للتلاميذ اعطوهم أنتم ليأكلوا.
وهذا الجواب: اعطوهم أنتم ليأكلوا، ليس جواباً فارغاً، أو امراً يصدر من يسوع وينتهي، فهو يعرف ان ليس للتلاميذ شيئاً ليعطوه للجمع ليشبعوا. ولكن، ليعلن السر الحقيقي للعطاء الذي يجب ان يعيشه خدام الكنيسة وخاصة خدام المذبح (الكهنة) وأيضاً السر الحقيقي للأخذ الذي يعيشه المؤمنون المشاركون في ذبيحة القداس… هذا النص بالحقيقة، يحكي لنا ماهية الذبيحة الإلهية وما يحدث فيها، وكيف أن الله لأنه يشفق علينا، ويعرف اننا نسير في حياة مقفرة وفقيرة، فأعطانا جسده ودمه في صورة الخبز والخمر، لنتذكر دائما انه هو معنا وحاضر بيننا ليغني حياتنا بذاته هو. ولنعرف انه هو الاب الرحيم الذي من فرط حبه لنا، لم يرد هلاكنا، وانما أصبح هو القدوس في وسطنا، من خلال تجسد ابنه الوحيد، ومن خلال سر القربان، ليكون هو ذاك القدوس الذي من اجله لن يهلك العالم وانما يعطيه الحياة.
فما يجب ان يعطيه المكرس والكاهن للمؤمنين، ليس ما يملك هو من إمكانيات وعلم وثقافة، ما يجب ان يعطيه هو يسوع بذاته، بركة يسوع ذاتها. وإلا فلا يمكن لأي امر آخر ان يشبع الجوع الحقيقي للناس، الذي هو الجوع إلى الكمال.
لهذا يقول يسوع للتلاميذ: اعطوني الخمسة ارغفة والسمكتين… وبارك الارغفة وكسر وأعطى للتلاميذ والتلاميذ أعطوا الجموع… ما يعطيه الكهنة والمكرسين للمؤمنين هو يسوع نفسه، هو ما يعطيه يسوع نفسه، جسده ودمه، وهذه هي ذبيحة الافخارستيا.. ويسوع نفسه من خلال جسده ودمه، يشبع الجوع إلى الكمال الموجود في نفوس المؤمنين…
وأيضاً، يعلمنا النص، كيف أن على المؤمنين ان يعرفوا ماذا يأخذوا، فالمؤمن بمشاركته في الذبيحة الإلهية، لا يأتي لحضور واجب اجتماعي او روتيني، او فقط لسماع صوت الكاهن الجميل والذي يطرب، وإنما يأتي ليأخذ يسوع، يأخذ بركة يسوع. يعي المؤمن ماهية جوعه الحقيقي، الذي هو الجوع إلى الكمال، ومن هنا سيعرف لماذا هو يذهب إلى القداس، عند ذاك يعرف لماذا عليه ان يأخذ يسوع الحاضر في القربان المقدس.
كل ما تفضلت به في السطور السابقة، من الشركة في الذبيحة الإلهية، والوعي بما نأخذه وما نعطيه، يأتي من قضية أساسية، اننا لا يمكننا اشباع جوعنا إلى الكمال إلا بالقرب من يسوع، ولا يمكننا ان نشبع ذاك الجوع إلى الكمال إلا من خلال تلاميذ يسوع، الذين اعتمد عليهم ليسوع ليعطينا ذاته بعد ان يكونوا هم شبعى بذات وشخص يسوع… وهذا ما نراه في جواب يسوع للتلاميذ عندما قالوا له: اصرف الجموع ليذهبوا إلى القرى ليشتروا لهم طعاماً، فقال يسوع: لا حاجة بهم ان ينصرفوا، اعطوهم انتم ليأكلوا ( متى ١٤: ١٥-١٦)..
بمعنى، ان لا طريقة لسد جوع المؤمنين إلى الكمال إلا بالبقاء قرب يسوع وتلاميذه، فلن تجد الجموع ما يسد جوعها إلا بالقرب من يسوع وتلاميذه… ويسوع يقول لتلاميذه اعطوهم أنتم ليأكلوا، وهم يجيبون، لا طعام لنا.. ولكن يسوع، يقوم بما يجعل التلاميذ يشبعون الجموع ويفضل، من خلال الخمس خبزات وسمكتين، فالقليل عند يسوع والذي نتقاسمه، يصبح كثرة وبركة…
هذا ما يعيشه الكاهن، فهو دوماً يقول ليسوع: لا شيء عندي لأعطيه للناس، ولكن انت يا يسوع تستطيع ان تعطيني ما تريد ان اعطيه للناس وما هم بحاجة إليه… أيضاً، نتعلم كيف ان المؤمن المعمد، مهما بحث وصال وجال ليسد جوعه إلى الكمال، لن يجده إلا في يسوع ومن خلال كنيسته المتمثلة برسله ومن يخلفهم.
الحياة المسيحية هي دائماً حياة شركة ومقاسمة، وربنا يسوع يدعونا اليوم أن نكون أسخياء في حياة الشركة هذه، مثلما كان هو سخي ومعطاء لكثيرين… وهذا السخاء لن يكون بكثرة الا عندما نأخذه من الله، فالقليل الذي بين أيدينا، والذي نتقاسمه على بركة الله، يصبح كثرة تشبعنا وتغنينا.. والكثير الذي لدينا، مهما كان كثيراً، بدون بركة الله وعونه، لن يكون الا قليلاً لا يشبعنا وانما يجعلنا جياع دوماً.
يسوع يقوم بهذه المعجزة في أرض قاحلة مقفرة، أرض تفتقر للحياة، أو تفتقر إلى معنى الحياة، الحياة لا تساوي شيئاً في هكذا أرض… ولهذا يقوم يسوع بتكثير الخبز لكي يبقي الحياة مستمرة إلى الأبد… معجزة تكثير الخبز، هي بحد ذاتها معجزة إكثار الحياة وتقديمها للناس بوفرة… وليس هناك حياة إلا من الذي يعطي الحياة ويخلقها، لن نراها ونلمسها إلا في يسوع، ولن نعيشها إلا في جماعة يسوع التي تتحد به وتصبح جسده، أي الكنيسة…
أيضاً، ما نعيشه في الذبيحة الإلهية من لمس لرحمة الله وعطاءه اللامحدود يجعلنا نسجد هذه العطاء والرحمة في حياتنا تجاه الآخر المحتاج، فنتساءل: كيف يمكننا أن نقدّم الحياة للآخرين، ماذا نقدّم لكي ما يستمر الآخر الذي يعيش معي في الحياة… ما هي نوعية الخبز والطعام التي نقدّمها للآخرين؟ فمن الممكن أن يعيش الإنسان اليوم على رغيف خبز واحد نقدّمه له، ولكن قد يعيش العمر كلّه على كلمة طيّبة… كلمة عزاء ورجاء… كلمة سرور وشكر وامتنان… إذا الطعام ليس الخبز المادي فقط، بل كل كلمة طيبة، فلا تقل أبداً بأنك فقير لا تملك شيئاً، بل أنت تملك الكثير الكثير، ولا يوجد إنسان بيننا اليوم ليس قادراً على إعطاء ولو كلمة شكر أو رجاء بسيطة في حجمها ولكن عظيمة في معناها…
إخوتي أخواتي الأعزاء: كثير من الناس لا يملكون شيئا وينتظرون منا ان نتقاسمهم القليل والكثير الذي نملكه…. بالتأكيد لن نستطيع مساعدتهم أو الوصول إليهم، ولكن يكفي ان نذكرهم في صلاتنا، فالتضامن ليس فقط في ان نعطي شيئاً ماديا، ولكن الصلاة والكلمة الطيبة هي أيضاً عطاء لأننا نقدمها للآخر من كل قلبنا. اليوم نحن مدعوون لا أن نقدّم كلمة الحياة “خبز الحياة” للآخرين فقط، بل أن نتعلّم كيف نخبزها، بتعاليم يسوع التي تجعل الحياة أكثر جميلة…. اليوم هنالك الكثير من الطبخات التي تهيئ ضد اناس كثيرين، دعايات مفبركة، تذكر الاخرين بالسوء وليس بالخير، دعايات تشوه ناس كثيرين ومهمين في الكنيسة والمجتمع، كلمات بلا معنى ولا اساس له من الصحة… علينا ان ننتبه، كل كلمة نطلقها ضد أي شخص، سنكون محاسبين عليها يوم الدينونة… نتركهم للرب، هو يسامحهم..
لنسال الرب في ان يعطينا القوة والشجاعة في أن نصبح دوماً خبزا مكسوراً لكل من نلتقيهم في حياتنا، لاسيما الفقراء والمنسيين والمرضى والضعفاء. ليكن فينا دائماً الاستعداد للعطاء الدائم فنسلّم أنفسنا وما لدينا بيد يسوع، فهو قادر ان يصنع المعجزات. يا رب إن ما ملكه هو قليل ولا قيمة له، لكننا يا رب نثق ولهذا نعطي، نحن متأكدين بان القليل الذي لنا يصبح من خلالك حياة وكثرة بوفرة… آمين
Zenit