معجزة خلاصنا هي أعظم من آية يونان النبي ومن كل الآيات؛ هي معجزة تدبير الخلاص العجيب التي أكملت كل المعجزات بإعلان المسيح ربًا وإلهًا وفاديًا ومخلصًا؛ الذي هو فوق الجميع… يعلّم ويعلن بالكلام والعمل والقدوة التي خدم لنا بها الخلاص، فهو المعلم الأبدي الأعلى والفريد للبشرية، وهو الحق المتجسد والنور الحقيقي الذي قدم ذبيحته من أجل خلاص العالم كله، وبه يخلص الجميع من الفساد والزيف والموت. يرد من الظلمة إلى النور؛ ومن الجهالة إلى معرفة مجد اسمه، فاتحًا عيون قلوبنا لتبصر مجده الأعلى… معلمنا الإلهي الذي لا يصيح ولا يسمع أحدٌ في الشوارع صوته؛ لا يطفئ الفتيلة المدخنة ولا يقصف القصبة المرضوضة، وحياته هي قاعدة وقانون ومعيار تقوانا وفضيلتنا، وتعليمه الجديد المجدِّد الذي فَاهَ به؛ يسترجع شبابنا الروحي ويجددنا يومًا فيومًا… يُميت موتنا ويطلقنا من جحيمنا وينقلنا إلى فردوسه؛ ويملك على نفوس الذين أحبوه وقبلوه وآمنوا بخلاصه ودخلوا شركة كنيسته وتمتعوا بأسراره.
نينوى ويونان؛ اسمان يستدعي كل منهما الآخر، في هذ الصوم مثلث الأيام. فيونان نبي العهد القديم هو في قلب أحداث العهد الجديد؛ لأنه رمز للسيد المسيح مع زُمرة الأنبياء الذين خدموا هذه الغاية، رموزًا وظلالاً للمرموز إليه مشتهى الأجيال كلها…
فآية يونان النبي التي صاغها التدبير الإلهي هي إشارة مسبقة عما كمله سيدنا الرب وتممه ببشارته وموته وقيامته العجيبة.. لذلك عندما تكلم الرب قائلاً – (لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؛ هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ) متى ١٢ ولوقا ١١ – لم يكن يربط بين حدثين وقعا بالفعل؛ وإنما بين حدثٍ وقع قبل قرون مضت؛ وحدثٍ هو يعرفه بعلمه السابق أنه سوف يقع فيما بعد، فهو يضع كلماته في الامتحان؛ وعلى المشككين فقط أن ينظروا ليروا، ولو لم يكن يعرف الماضي والحاضر والمستقبل لَمَا ربط حادثة يونان بالخلاص.
فكما خرج يونان حيًا من بطن الحوت؛ هكذا ستكون قيامة المسيح بعد أيام القبر الثلاثة ولياليه الثلاث شهادة على صدق رسالته وأقواله؛ وعلى إتمام نبوات العهد القديم فيه، حيث صارت الرموز حقيقة؛ وتمت الظلال بالفعل، وسجلتها كلمة الله الحية التي لا تزول ولا تكذب ولا تتبدل ولا تنسخ بعضها بعضًا.
أهل نينوى الذين تابوا بكرازة يونان سيدينون كل الذين لم يتوبوا ببشارة خلاصنا المفرحة، وسيدينون كذلك الذين لم يقبلوا دعوة مسيحنا للتوبة والإيمان به كمخلص… خاصة أن يونان والمسيح ليسا نِدَّيْن؛ لكن المسيح المخلص أعظم من يونان بما لا يقاس (وهوذا أعظم من يونان ههنا) بمقدار أن السيد أعظم من العبد؛ والمعلم أعظم من التلميذ؛ والمرسَل أعظم من الرسول؛ والكلمة أعظم من الكارز؛ ورب الهيكل أعظم من الهيكل؛ وباني البيت أعظم من البيت؛ والإلهي أعظم من البشري (الأرضي)؛ والذي من فوق هو فوق الجميع؛ لأنه الرب من السماء؛ لا يقارن بأحد ولا حتى بالأنبياء.
مسيحنا أعظم من يونان؛ لأنه محب البشر الصالح الذي أحبنا أولاً وأحبنا فضلاً وأحبنا ونحن خطاة وأحبنا إلى المنتهى؛ وهو لا يُسر بموت الشرير بل برجوعه عن طرقه ليحيا؛ مشفقًا متحننًا فاتحًا أحضانه لكل من يُقبل إليه… أتى لا ليُفني ويُهلك؛ بل ليخلص ويضمد ويضم ويعزي ويشفق ويبذل إلى التمام… يعتني باليقطينة بل وبالخليقة كلها؛ ويهتم بالكل حتى النباتات التي لا تُدرِك من أمرها شيئًا..
إن خلاصنا هو شهوته؛ وقداستنا هي إرادته وفداءنا هو مسرته؛ بينما العقوبة هي نتيجة رفض وإهمال وتأجيل الخلاص والاستهتار به.. مسيحنا مخلص العالم كله؛ اختارنا واقتنانا وأحبنا برحمته وغفرانه وإحسانه؛ ومن أجل ذلك أدام لنا الرحمة، وهو منتظر كل شرير وفاسق لينعم عليه بالعفو الإلهي؛ عندما يغتصب ملكوت النجاة؛ كما حدث مع النبي الهارب والشعب التائب.
نادى يونان؛ فآمن أهل نينوى بالله وصاموا وتابوا من كبيرهم إلى صغيرهم، صرخوا إلى الله بشدة ورجعوا كل واحد عن طريقة الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم، إنه منهج توبة تضعه لنا الكنيسة كل عام كي نسلك توبتنا فنرجع ونقدم ذبيحة الصوم التي تستحسنها ملائكة الصوم عندما جاءت فرحة تخدم المسيح على جبل التجربة، فتركه الشيطان مهزومًا مخزيًا. وليس عبثًا وضعت الكنيسة صوم نينوى؛ بل بترتيب مُلهم قبل قدوم الصوم الكبير؛ لأنه يحمل مَعَانٍ ورموزًا كثيرة بين الغطاس والنزول إلى بطن الماء ثم الخروج للبشارة ثم للموت على الصليب؛ وهكذا يبدو سفر يونان تطبيقًا رؤيويًا يشير إلى المسيح بصورة قوية: يونان رمز حي بشخصه يمثل المسيح في عماده الذي دفع به إلى الأربعين المقدسة ثم إلى الصليب وفصح القيامة؛ تمامًا كما نزل يونان الماء كاجتياز للموت والقيامة.
لقد احتوى الحوتُ يونان في بطنه وأغلق عليه؛ لكن النعمة ضمنته فكانت حافظة له، ثم خرج كارزًا إلى مكان كرازته ليكرز بالتوبة بعد توبته هو… وهكذا صارت في يونان أول إشارة إلى عقيدة القيامة؛ وتثبتت بالمثال الذي تردده كنيستنا في صوم نينوى (يونان في بطن الحوت كمثال المسيح في القبر ثلاثة أيام).. إنها إشارة المسيح إلى قيامته كي يؤمنوا عندما يروا سابق معرفته بما سيحدث له؛ لأنه لم يقُل (في الأرض) بل (في قلب الأرض)؛ لكي يؤكد قبره (في بطن الحوت) ونحن بموته نبشر؛ وبقيامته المقدسة وصعوده إلى السموات نعترف، فقد نقض الهيكل (جسده) في ثلاثة أيام وأقامه؛ وقد رُفع العريس؛ الذي هو أعظم من يونان.
يونان أعلن الخراب والموت لنينوى؛ أما المسيح فبشر بالبشارة السارة المفرحة وبالحياة الأبدية.. أهل نينوى آمنوا بدون آية؛ لكن مسيحنا أجرى آياتٍ وعجائبَ؛ وقدم نفسه فديةً عن كثيرين.. يونان مُرسَل كسفير لمن أرسله؛ لكن مسيحنا هو رب الكل. يونان لم يسبقه أحد كي يخبر عنه؛ أما مسيحنا فقد تعهدَنا بأنبيائه القديسين؛ وفي آخر الأيام ظهر لنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت.
يونان لم يعيِّره أحد؛ أما مسيحنا فقد وقعت عليه تعييرات معيرينا؛ وحمل صليب الآلام ومات على صليب العار؛ محتقَرًا ومرذولاً من الناس.. فلنستمع إلى مناداته ولنقبل إذن خلاصه العجيب ونرجع عن الشر والأباطيل الكاذبة ونكرز ونخبر بفضائله… إذ مطلوب منا أمورًا أعظم مما كان من أهل نينوى؛ لأننا نلنا خلاصًا هذا مقداره، ونلنا عودة مَكِينة إلى الملكوت؛ بعد أن كنا في أرض النفي (نُفينا من فردوس النعيم)، أنقذنا من الموت الوشيك ومن الغضب والهلاك الأبدي بواسطة التدبير الذي أكمله الكلمة؛ وبواسطة آية (مماثلة) لآية يونان، لكل من سيؤمن بالله كيونان، وكل من يدعو في الضيق يستجيب له؛ وكل من يصرخ من جوف الهاوية يسمع صوته؛ دون أن يفتخر كل ذي جسد أمامه.