نظمت الرابطة السريانية ندوة بعنوان “مستقبل لبنان بين الثوابت والهواجس”، في مقرها في الجديدة، بمناسبة عيد مار مارون، شارك فيها رئيس جامعة الروح القدس الكسليك الاب البرفسور جورج حبيقة وفي حضورالمطران جورج صليبا وعدد من المفكرين والأدباء ورجال الفكر.
أفرام
بداية، القى حبيب افرام كلمة قال فيها: “في أخطر الأزمنة، كم نحن بحاجة الى الحقيقة والضمير والكرامة، الى كلمة العقل والفكر والقضية والنضال، بدل الجنون والهذيان، في زمن يكاد يحتلنا العمر والتفاهة والسطحية والتبعية وشهوة المال”.
أضاف: “أردنا في عيد مار مارون، ابننا الذي نعتز به، أن نساهم في العودة الى الجذور في طرح عميق حول مستقبل لبنان، الوطن الذي بيته الخطر، بين الثوابت والهواجس. لقد سئمنا من ببغاءات الاعلام وتأليه الزعامات. الوطن بحاجة الى ثورة ما، الى تغيير في كل نظرتنا الى أنفسنا ودورنا وحضورنا ومثقفينا ونخبنا”.
وأكد “اننا مسؤولون عن غدنا”، وقال: “ومن أجرأ وأعلم من رئيس جامعة الكسليك، هذا الصرح العلمي والوطني والذي يشرفني أني واكبت ضمة من رجالات لجنة أبحاثه في بدايات حرب لبنان – كي يدل على الطريق وينير الدرب. إنه الاب البروفسور جورج حبيقة. أهلا بك في الرابطة السريانية وأهلا بكم أحباء وأصدقاء علنا نضيء نورا في ظلام!”.
حبيقة
ثم قدم الاب حبيقة مداخلة قال فيها: “ثوابت لبنان أنه لم يكن يوما بلدا عاديا. وتقوم معجزة استمراريته على انه لم يخرج قط من دائرة المخاطر عبر كل حقبات تاريخه الطويل والضارب في عمق الزمن الإنساني. قدره أن يعيش في دائرة المخاطر عبر كل حقبات، ذلك أنه كان على خطر لانه بلد الحياة (Vivre c’est risquer). والحياة لا تنمو إلا في المخاطر، حتى الآن أقله، تلك المساحة الحرة والفريدة لبشرية متألمة، هاربة من عذابات ماضيها تائهة في حاضر متقلب وغامض ومتوجسة من غد أفجع وأهول، في شرق ميال، حضاراته وثقافاته وتقاطعها الغني، إلى نوع من الأحادية اللغوية والدينية والسياسية والاجتماعية، من أن الوحدة التي يسعى إليها كمدخل إلى القوة المنشودة”.
وتابع: “مصائب هذا الشرق الكبرى أنه يتوهم أحيانا، الناس نسيت حتى المرض والهزال على وقع حر تولد من رحم الانصهار. ورغم آلامهم وتشردهم، استطاعوا أن يسقطوا بممارسة يومية دؤوبة وهادفة مبدأين خطيرين، وتطلعات الى الانصهار والتسامح اللذين يتعارضان وحقوق الإنسان الطبيعية والأساسية، ويتهددان عيشه ثم إلغائه”.
وشرح مفهوم الانصهار، فقال: “إن الانصهار الذي تتناوله وتشدد عليه، بكل أسف، نصوص اتفاقية الطائف ويطفو كزبد مرضي على سطح الخطب السياسية، إنما هو مصطلح يستعمل، أصلا وحصرا، للمعادن التي تدخل متنوعة واحدا وتركيبا كيميائيا واحدا. فلبنان لم يعش قط هذه الحالة إلى الأتون لتخرج منه شكلا واحدا ولو لاختلاف. تقوم رسالة لبنان الاجتماعية والسياسية على أنه ليس الانصهارية المذوبة لحق الآخر مطلقا مشروع انصهار، بل دائما مشروع وحدة إنسانية ووطنية بين عائلات روحية ومجموعات إتنية وأعضاء لا وثقافية وحضارية، على شاكلة وحدة الجسد القائمة على التكامل الوظائفي”.
وتابع: “وكما كانت الفلسفات اليوم تضع تصورا لأكمل تصميم إداري للمدينة الفاضلة والمثالية، كذلك علينا أن ننظر إلى سر الحياة.. هل أمعنا النظر في وظيفة كل عضو وكل خلية…هل نريد للبناننا خطر الحياة في الوحدة، أم طمأنينة الموت في الانصهار؟ الحياة لا تسكن إلا في التنوع، والموت لا يقيم إلا في الأحادية”.
وعن مفهوم التسامح، قال حبيقة: إنني أرى في هذا المصطلح، من زاوية بحت فلسفية، مسا قاسيا بحقوق الإنسان الطبيعية والأساسية، إذ ينطوي على مدلولات سلبية.. في التسامح، يستعطي الإنسان الأقلي بقاءه في الوجود من الآخر الأكثري والقوي”.
وتحدث عن الميثاق اللبناني وميثاق المدينة، فقال: “لبنان خائف على ذاته في هذا الشرق المعلق على خشبة الأحادية، بعضا لا يستهان به من حقه الإنساني في وجود حر وكريم. فكان ما نسميه الميثاق الوطني أو الصيغة اللبنانية التي نستشف منها امتدادا مباشرا لا مواربة فيه “لميثاق المدينة” أو “صحيفة المدينة” أو “دستور المدينة”، المبرم في زمن النبي محمد بين اليهود، الجماعة الأكبر في مدينة يثرب والأغنى، والجماعة الإسلامية الأولى، المهاجرين، والنصارى والصابئة والوثنيين، والذي ينشئ بصريح العبارة مجتمعا سياسيا واحدا تحت لفظة أمة، في تعددية دينية وثقافية. غير أن هذا الاتفاق الذي يعتبره الباحثون، أمثال المستشرق، هنري بايمن أول نص مكتوب في القانون المدني في العالم ، سقط ودخل بعده الإسلام تدريجا في ذهنية مغايرة بفرضه الشريعة الإسلامية على المسلمين وغير المسلمين، من دون أن يفقد كليا بعض الحنين المتقطع ما تداعى من روحية “ميثاق المدينة” وفلسفته، كما يظهر لنا ذلك في تأنيب عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص وولده في حادث ضرب ابن عمرو بن العاص للفتى النصراني المصري: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.
اضاف: “من هنا القفزة النوعية التي أنجزت الصيغة اللبنانية في ترجمتها للميثاق الوطني عندما أبت أن تبقي احدا أو جماعة من اللبنانيين خارج التمثيل النيابي وخارج ادارة دفة الحكم أو السيطرة على الآخرين أو تطويعهم أو السلطة، وحالت دون استئثار أية طائفة لآخرى وأرست الحكم على قاعدة الاعتراف بالمغايرة، بل شرط أساسي لتأطير ذاتي لوجودها، إذ لولا الآخر لما كان من الممكن أن أعي ذاتي في الآخر دينيا وعرقيا وثقافيا، بفضل الصيغة اللبنانية المستندة إلى التشارك الطائفي، وهكذا ، المنفتح والمتفاعل والبناء، جزء لا يتجزأ من ذات الجميع، وشريكا فاعلا لا متفرجا في رسم السياسات التي من خلالها تدار شؤون لبنان كافة. وكذلك بفضل الصيغة اللبنانية، قامت الديموقراطية اللبنانية على التناوب السلمي في الحكم، وضمن مهل زمنية محددة في الدستور، وعندما نسمع بعض السياسيين اللبنانيين يتكلمون عن النظام اللبناني بلغة تحقيرية ولا أقسى، لا نستغرب البتة وجعهم واشمئزازهم وخيبة أملهم من هكذا نظام، لأن هذه البغيضة، هي التي تمنعهم فعلا من احتكار السلطة وإقصاء الآخرين ومن الطائفية والتحكم الكامل من دون أي منازع في مفاصل الإدارة في الدولة اللبنانية”.
وتابع: “لا نغالي البتة إذا قلنا إن لبنان هو البلد الوحيد في جامعة الدول العربية الذي نرى فيه رؤساء للجمهورية سابقين، يتمتعون بكامل حقوقهم، ويواصلون نشاطهم السياسي بكل حرية، يشيعهم لبنان الرسمي، والشعب، والبعثات الأجنبية بكل إجلال إلى مثواهم الأخير. إن هذا المشهد يكاد يكون حكرا على لبنان. وأيضا من ثوابت لبنان الأساسية تطبيقه الكامل للمادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان : “لكل إنسان الحق في حرية الفكر والضمير والدين؛ يشمل هذا الحق حرية تغيير دينه أو معتقده، وحرية الإفصاح، سواء بمفرده أو في جماعة مع التلقين والممارسة والعبادات مع آخرين، وفي الإطار العام أو في الإطار الخاص، عن دينه أو معتقده والفرائض”. إن احترام لبنان غير المنقوص ممارسة وتشريعا لكل مضامين هذه المادة يجعل منه، في مجموعة الدول العربية والإسلامية، حالة استثنائية”.
واردف: “إن الصيغة اللبنانية التي جعلت من لبنان أنموذجا للدول غير المتجانسة في النظام المذهبي الذي يلغي مفهوم المواطنة الصحيحة المبنية على المساواة، الاجتماعية والثقافية، ان وجود الإنسان الاجتماعي لا يستقيم البتة خارج منظومة من الانتماءات، منها ما هو مفروض مسبقا ومنها ما هو اختياري ولاحق. هل كان بوسعنا أن نعدل شيئا ما في الانتماءات الوجودية الملزمة؟ ألا يعتبر هذا مسا خطيرا بحرية الإنسان؟ من منا، على سبيل المثال، اختار والده أو أمه؟ ألا يعتبر هذا تعليبا مسبقا للوجود وأسرا خانقا لخياراتنا الحرة؟ والأكثر من ذلك، من منا اختار أن ندخل الوجود خارج الانتماء إلى عائلة؟ خارج وطنه، أو لغته أو حتى دينه؟ نستخلص مما سبق أن الوجود الإنساني لا يمكن أن يتحقق ويستمر من دون انتماء. بيد أن هذا الانتماء التأسيسي الأول للوجود لا يعني البتة رفض انتماءات الآخرين والدخول في صراع معها. فالعقل الحكيم يدرك حق الإدراك أن تلاقي البشر يخضع لناموس وجودي يحافظ على ذاتية الإنسان التي تصوغها المعطيات الكيانية الطبيعية و تعدها في الوقت عينه للتحاكي مع الذات الأخرى والتكامل معها وما شاكل. ضمن حق الاختلاف”.
وقال: “يقول الخبير الألماني السابق لدى الأمم المتحدة والمسؤول عن ملف لبنان، كلاوس د. هيلليبراند إن هذا النظام يؤمن في الوقت الحالي نوعا من الاستقرار ويتلاءم بمهارة، في آليات أخذ القرارات، مع مصالح المجموعات اللبنانية كافة. من هنا، إن كل سعي إلى إحداث أي تغيير جوهري في النظام إنما هو محفوف حتميا بمخاطر جمة، لا سيما في الظروف الراهنة، حيث نرى أن الدول المجاورة والشرق أوسطية في مجملها لا ترتدع عن رسم سياسات توسعية جامحة”.
اضاف: “نستخلص مما سبق أن حصر أزمات لبنان في نظامه الطائفي، الذي هو في الواقع أرقى نظام مشاركة للدول غير المتجانسة، هو اعتداء سافر على المنطق وعلى الفكر الموضوعي. من إن لبنان، بفضل ميثاقه الوطني الثابت ودينامكية صيغة الحكم فيه المتمظهرة في الطائفية البناءة، إنما هو البلد المدني والديمقراطي الوحيد في جامعة الدول العربية. جميعنا يعرف حق المعرفة أن لا دينا رسميا فيه ويعترف رسميا بعدد منها، من دون أن تلتزم بواحد للدولة في لبنان. فالدولة اللبنانية تحترم كل الأديان بينما نرى، في المقابل، أن جميع الدول العربية الأخرى، تعلن الإسلام و لبنان في هذا الشرق الحالة الاستثنائية الوحيدة بين التيوقراطية الإسلامية والتيوقراطية اليهودية. مهما يكن من أمر، فالطائفية البناءة، في جوهرها، ليست صاعق تفجير للمجتمع اللبناني”.
وختم:”الويل لهذا الشرق إن تحولت ثوابت لبنان إلى هواجس وهواجس لبنان إلى ثوابت”.
وكانت مداخلات وأسئلة.
وطنية