لا يتردد البابا فرنسيس، في كلّ مناسبة منذ إلقائه كلمة نهاية السنة أمام الكوريا الرومانيّة، في التنديد بمرض شائع يصيب الكوريا كما الجماعات وهو مرض الهمس والقيل والقال والثرثرة.
“لقد سبق وتحدثت عن هذا المرض مرّات عديدة إلا أن الحديث عنه لا يكفي أبداً. إنه مرضٌ خطير قد يبدأ بالقليل من الثرثرة قبل أن يستحوذ على الشخص ويحوّله الى “مثير للفتنة” (تماماً كالشيطان) وفي الكثير من الحالات “الى مرتكب جرم بدم بارد” فيقتل سمعة الزملاء والأخوة. إنه مرض الجبناء الذين لا يتجرأون على المواجهة بالكلام فيتكلمون وراء ظهر الشخص المعني. فيا أيها الأخوة، فلنبقى بعيدين عن إرهاب الثرثرة!” (البابا فرنسيس، 22 ديسمبر 2014)
لا تخاف كلمات البابا الإنتقاد فقد طلب ممارسة “فحص الضمير” إزاء الكلمات الفارغة القادرة على القتل. ندّد بإرهاب الثرثرة وحذّر من “الهمس والحسد” خاصةً أولئك الذين يشغلون مناصب في الكنيسة ويعيشون حياة دينيّة. وشدد أيضاً على “القوة المدمرة” للغة المستخدمة كسلاح في وجه الإخوة والأخوات.
لكن ما الهمس والقيل والقال؟
ليس الهمس سوى كلمات تعبر عن عدم الرضا وسوء النيّة والإنتقادات والشكوى. لا تُقال بصوتٍ عالٍ لمن من الواجب توجيهها إليهم للتصحيح الأخوي بل تتهامس به الناس سراً وفي الخفاء. فيشبه صوتاً غير معروف أكثرمن الكلام البشري.
وعلينا أن لا ننسى ان الهمس رذيلة كريهة يدينها الإنجيل أكثر من مرّة. إنها كلمات يُدان من خالها المرء أو يُغيّر الناس أقواله وأفعاله وكلّ ذلك في غيابه أي دون أن تكون لديه فرصة الدفاع عن نفسه والتفسير أو قبول الإنتقاد بتواضع.
ويربط الإنجيل بين الهمس وغياب الإيمان: “يقول موسى: إنه ليس علينا تذمركم، بل على الرب .” (سفر الخروج 16،8) وتتحدث المزامير أيضاً عن هذه الهماسات وعن ارتباطها بالإيمان: “رفضوا أرضا شهية غير مؤمنين بكلمته، في خيامهم تذمروا وإلى صوت الرب لم يستمعوا.” (المزامير 106، 24 – 25)
ويحذر العهد الجديد أيضاً من هذه الرذيلة الخطيرة بحزمٍ كبير: ” ولا تتذمروا كما تذمر بعضهم فأهلكهم المبيد.” (الرسالة الاولى الى أهل كورنثوس 10، 10). ويبدو ان هذه الرذيلة هي من الأكثر شيوعاً في المجتمع لأنها الطريقة الأبسط لتفريغ العنف الذي فينا خاصةً عندما نخشى المواجهة وجهاً لوجه أو التحدث بوضوح مع من سينمو ويستفيد من التصحيح والانتقاد.
وإن تجرأتم على انتقاد أخ، وجهاً لوجه، فرفض الإصغاء إليكم، تحدثوا عن الأمر مع أبناء الكنيسة حسب تعاليم الإنجيل. يلجأ الجبناء ومن يخشى الحقيقة والشفافيّة بسهولة الى الهمس ويطلب أن لا تدينه السلطات التي يُندد بها هو سراً. غالباً ما يتم الأمر دون وعي لكن من الممكن محاربته إن أردنا المحافظة على الحقيقة والشفافيّة.
نعم، ندين من خلال همساتنا الآخرين ونخلق التحالفات ضدهم. نتغذى من العداوة التي هي في داخلنا والتي تريد إلغاء الآخر. أليس من الأسهل ان نتوجه نحو قريبنا وأن نقول له وجهاً لوجه ما نفكر به متحملين مسؤولية أفعالنا وأقوالنا؟
نعرف جميعنا ان الهمس من أكبر صعوبات الحياة الرهبانيّة فقد تكون الرذيلة الاصعب للقضاء عليها. هي مرض يدفع الى الحكم على كلّ فعل وكلّ حركة وكلّ كلمة بسوء نيّة. قال يسوع: ” إن كانت عينك مريضة، كان جسدك كله مظلما. فإذا كان النور الذي فيك ظلاما، فيا له من ظلام!” (متى 6،23). ويقترح القديس بندكتس التواضع كمضاد لهذا المرض!
وماذا عن القيل والقال؟ إنه خبز البعض اليومي ويمتد في المدة حتى ولو بدا أقل خطورة. فيحب التوقف عند مشاكل وأحداث تخص الآخرين كما ويميل الى تأليف الكثير من الامور ومنها الإفتراءات. إلا أن للكلمات وزنها وتؤثر على من يسمعها وتدفعهم الى التفكير بطريقة معيّنة. وفي سياق القيل والقال، يتم تفسير الوقائع والكلام بطريقة ذاتيّة مع إدعاء الموضوعيّة. فنشوه المحتوى والمعنى ونجتزأ الكلام مشددين على بعض الأمور دون سواها. نعم، القيل والقال لسان لا يمكنه أن يسكت. ويقول القديس يعقوب في رسالته: ” اللسان نار أيضا وعالم الإثم.اللسان بين أعضائنا يدنس الجسم كله ويحرق الطبيعة في سيرها ويحترق هو بنار جهنم.” (يعقوب 3، 6)
دائماً ما نجد في جماعاتنا ومحيطنا شخصاً يبدأ، ما أن يلتقي بأحدهم بالحديث عن الآخرين وانتقادهم. يقضي وقته في الثرثرة لأنه لا يريد النظر الى ما في داخله ومراجعة ذاته.
لا نستغرب أن يكون البابا فرنسيس قد تحدث عن إرهاب الثرثرة: “إن من يثرثر هو من يلقي قنبلة ومن ثم يرحل، فيدمر بلسانه عوض صنع السلام.” ويتعيّن على كلّ واحدٍ منا نزع فتيل هذه القنابل.
أليتيا