“عيد الفصح 1916” لويليام بتلر ييتس هي واحدة من أشهر القصائد باللغة الإنكليزية في العصر الحديث. إنها تخليد للثورة الإيرلندية التي حدثت في عيد الفصح قبل قرن. أكتب القليل عن الحدث نفسه هنا، لكني أشدد على خطاب الدم و التضحية و الاستشهاد الذي أحاط بالقيامة، و كيف جاء مناسباً تماماً للموضوعات السائدة في معظم الدول الأوروبية في ذلك الوقت، في سياق الحرب العظمى الجارية. تثير هذه المواضيع تساؤلات حول مدى سهولة تكييف الخطاب المسيحي بشكل طبيعي من أجل قضية الحرب و العنف.
كان باتريك بيرس أحد القادة الإيرلنديين مهووساً بفكرة الفداء بالدم. و هذه الأفكار كانت متجذرة في الفكر الكاثوليكي لكنها أتت أيضاً بتصوف عنصري وثني جديد. في عام 1913 دعا لكفاح مسلح، و كتب “قد نرتكب الأخطاء في البداية و نقتل الأشخاص الخطأ: لكن سفك الدماء هو تطهير و تقديس”. و بعد سنتين أشاد بالحرب، معلناً أن “قلب الأرض يحتاج إلى النبيذ الأحمر في ساحات القتال ليستعيد حرارته” لأن “الحياة تنبع من الموت”. كان يؤمن إيماناً راسخاً بأن “رجلاً واحداً بإمكانه تحرير شعب، كما استطاع رجل واحد أن يخلّص العالم”.
وفقاً لمنطق تعاليمه، في اثنين الفصح عام 1916، انضم بيرس إلى القوميين الآخرين من كاثوليك و علمانيين، في قيامة انتحارية ضد السلطة البريطانية. كانت الثورة رمزاً لموت و قيامة البلاد. و على حد تعبير كونور كروز أوبراين “رأى بيرس القيامة كمسرحية آلام بدم حقيقي”.
لكن معظم القوميين الإيرلنديين يعارضون المجهود الحربي للحلفاء، و تعكس لغتهم وجهة نظر عالمية مماثلة لتلك القوى المتحاربة. و كما كتبت في كتاب “الحرب المقدسة العظمى” عام 2014، تشكلت جميع الدولة الأوروبية الكبرى بطرق مشابهة جداً بخطاب منقوع بدم ذبيحة مقدسة – و هذا ما فعله الأمريكان أيضاً عندما دخلوا الحرب عام 1917. (و هذا ما فعله أيضاً أعداء بيرس البروتستانت الوحدويون في إيرلندا نفسها).
و كانت هذه الأفكار حول الأضاحي هي الدعامة الأساسية في الخطب. في عام 1916 تصور ترتيلة فرنسية لعيد الميلاد جيشاً مرابطاً في الخنادق “و كالطفل في الإسطبل/ينتظر الساعة الحاسمة/للتضحية بنفسه على المذبح”. بعض الأمثلة الأكثر وضوحاً تأتي من التراث الغني للحرب، و نجده بسهولة في المجلات المصورة التي كانت مثل دعامة أساسية لوسائل الإعلام الشعبية في كل الدول الكبرى و لكل اللغات. في عيد الميلاد 1914، أظهرت لوحة بريطانية بعنوان “التضحية العظمى” جنديا بريطانيا يحتضر إلى جانب المسيح المصلوب، و قد أعيد رسمها على نطاق واسع. و حملت اللوحات العسكرية المعاد رسمها بشكل كبير عناوين مثل “المكافأة الكبرى” و “الحب الأعظم”. و تظهر العبارة الأخيرة بانتظام في المقابر العسكرية الروسية، و تعني أن القتيل قد وهب حياته من أجل أصدقائه.
لقيت أفكار التضحية و المعاناة صدى خاصا لدى الكاثوليك، حيث يركز إيمانهم على إعادة تمثيل موت المسيح في القداس. و أعطى هذا الحدث قوة للكهنة الذين كان يسمح لهم وحدهم بأداء الطقوس. تهيمن صور الإفخارستيا في أدب الحرب الكاثوليكي، في كل الأمم. عام 1915 نشر الكاتب الفرنسي رينيه غايل الكتاب المشهور (كاسوكس تحت مرمى النار) و الذي نشر باللغة الانكليزية في العام التالي. يصور الكتاب الكهنة الفرنسيين كأبطال و شهداء حرب كانوا مسيحيين كاثوليك وطنيين، في صراع موت ضد برابرة “مقدسات ألمانيا، التي دنست المعابد الكاثوليكية”. لا يأتي النصر إلّا “بالتضحيات و المعاناة الطوعية” – و نرى في الترجمة الإنكليزية الأصلية كلمة “محارق” بدل كلمة تضحيات. على الرغم من أن المسيحيين سيضحون بدمائهم، فعلينا أن نرى هذا “كالبذور الحمراء للمعركة، البذور الأبدية للانتصار و الخلاص”. إن الله الذي يطلب منا أن نتألم و نموت، “يعطينا الفرح الذي لا مثيل له بعد أن تم اختيارنا لنكون أبطال الحرية، شهداء الحقوق المنتهكة”.
هذا الالتزام بالمعاناة و التضحية في الممارسة العلمية يعني الخدمة في الزي الرسمي، و حمل السلاح و قتل الآخرين. فمثل هذه الحسابات تصور الجنود يموتون فداءً حتى يصعب أحياناً معرفة من كان يقاتل حقاً، و لم يمت بنبل فقط. بالتأكيد كان هناك من يطلق القذائف و يحمل الحراب.
كانت فكرة الشهادة و التضحية غاية في الخطورة عندما تؤثر في المواقف إلى درجة الخسائر العسكرية. إنه أمر يعود للفرد إن أراد التضحية بحياته من أجل الآخرين، لكن في بعض الأحيان كان القادة يقبلون بسفك الدماء الشامل من أجل قضية عظيمة. في إيطاليا قامت القيادة العليا بإلزام المشاة “بمحرقة ضرورية” بهدف “استعادة” الحدود الطبيعية لإيطاليا. أسهمت هذه العقلية المتعصبة بارتفاع معدل الضحايا في إيطاليا زمن الحرب و بسلسلة متكررة من الهزائم الساحقة.
لم يكن الجنود من القوى الوسطى ليفاجأوا بمشاعر الحلفاء في التضحية و الاستشهاد. في زمن فردان، كان رجال الدين الكاثوليك الألمان يقارنون تضحية الجنود في الخطوط الأمامية بتضحية المسيح.
كان والتر فليكس أحد كتّاب الحرب الألمان، توفي عام 1917 متأثراً بجراح أصيب بها على الجبهة الشرقية. و شعره الشعبي يقدم الحرب كأنها العشاء الأخير، حيث “الدم الألماني هو النبيذ الذي أعدّه المسيح/و في أنقى الدماء تعمل قوة الرب/و يمر في التحول المقدس”. كما يعلن أيضاً أن “ذبيحة أفضل الناس ليست سوى تكرار أراده الله لأعمق معجزة في الحياة … موت المسيح”. كانت التضحية شرطا مسبقا للمجد و القيامة:”للقتال، للموت، للقيامة، هذا هو جوهر الوجود. من موتنا (في الحرب)، تستعاد الأمة”.
في ذلك الوقت، حقق كتاب فيليكس مبيعات ضخمة. و كما كان متوقعاً فقد أحب النازيون أعماله، بنظرته الصوفية للدم الألماني و التضحيات العسكرية، و أشادوا بكتاباته – وهذا هو السبب الرئيسي في تلاشيه من ذاكرة الأجيال اللاحقة.
لقد سكن فليكس و بيرس في الكون الروحي ذاته.
في اثنين الفصح هذا، من الجيد أن نتذكر أن كل هذا الحديث عن الحرب المقدسة المسيحية لم يأت من عصر الحروب الصليبية بل منذ قرن من الزمن.
أليتيا