بعد هزيمتهم على يد العرب عام 751 في آسيا، خسر الصينيون أكثر من معركة: كان عليهم تسليم طريقة صنع الورق. إختراع ثوري ومربح.
عرفت الصين تقنية الورق منذ القرن الثالث قبل الميلاد، بحسب الاكتشافات الأثرية الأخيرة في مقاطعة شانجي (شمال شرقي البلاد). من الألياف النباتية المنحلّة في الماء ثم المجففة نحصل على مادة طريّة متعددة الإستعمالات، تستخدم بشكل رئيس في التغليف والتزيين. لكننا لا نعتبره بعد بمثابة سند للكتابة. إلاّ أنه كان لا بد من انتظار Cai Lun، الشخصية التي لا تزال تجسد اليوم نمو صناعة الورق في بلاد الوسط (الصين). ففي العام 105، استخدم هذا الخصي، وهو أحد كبار الموظفين في البلاط الإمبراطوري في عهد أسرة هان، الخِرَق التي تتحول من عجينة إلى مادة أكثر ملاءمة للكتابة. بعد إتقان هذه العملية التي تقضي بوضع المنتوج في مُنخل على شكل ورقة انتشر إلى كوريا ثم إلى اليابان عن طريق الرهبان. لكن سر هذه المادة الجديدة قد تم التكتم عليه بعناية قصوى من قبل ورش العمل وتتطلب الأمر صدمة حتى تعمّم هذه التقنية.
حدث ذلك عام 751 خلال معركة طلاس، التي حملت اسم نهر يقع على الحدود الحالية بين قِرغيزيا وكازاخستان. فقد واجهت قوات الخلافة العباسية (60.000 إلى 20.000 رجل) جيش تانغ الصيني (30.000 إلى 200.000 جندي). والهدف: السيطرة على منطقة سير داريا الواقعة في آسيا الوسطى على طريق الحرير. وبعد خمسة أيام من المعارك انتصر العباسيون. أوقف هذا النصر توسع تانغ غربًا ومكّن المسلمين من السيطرة على المنطقة على مدى القرون الأربعة التالية. أجمع المؤرخون على أن التبعات لم تكن متوقعة. فبعد الهزيمة، تم أسر الجنود الصينيين ومن ثم بيعهم كعبيد في سمرقند وبغداد ودمشق. خلال أسرهم، نقلوا أسرارًا تكنولوجية تناولت الحرير والبارود والورق إلى العباسيين. وقد تابع هؤلاء صناعة الورق في بغداد ودمشق والقاهرة، حيث نجد ورّاقين منذ القرن الثامن.
“بوابة بائعي الكتب”
بعد ذلك انتقلت الثقافة الإسلامية إلى حضارة الكلمة المكتوبة، وتمركز سوق الكتاب في المدن الكبرى، بالقرب من المساجد الكبيرة. زِد على أننا غالبا ما ندخل إلى هذه الأماكن المقدسة من “باب أصحاب المكتبات”، وهو ما يوضح الكثير عن أهمية هؤلاء التجار في نقل الإيمان ولكن أيضًا في نشر هذه السنَد المبتدِع.
لقد أصبح الورق أقل سهولة في الحَكّ، وبالتالي التزوير، من الرَق أو ورق البردي، وبات إلزاميًا في القرن الثامن في إدارة الدولة العباسية. ثم تقدمت مناطق الإنتاج نحو الغرب؛ كذلك أخذت شمال أفريقيا تصنع الورق إبتداء من القرن العاشر. أيضا في صقلية أو إسبانيا، في أوروبا تحت السيطرة الإسلامية، ظهرت في القرن الحادي عشر المطاحن الأولى المخصصة للحصول على العجين الثمين. وفرضت قرطبة نفسها باعتبارها سوق الكتب الرئيس في ذلك العصر. لقد كان لتأثير الورق نتائج عظيمة على تطور الكتابة والكتب والرياضيات والموسيقى والفن والهندسة المعمارية وحتى فن الطهو في الغرب.
يقول الأميركي جوناثان بلوم (أستاذ الفن والعمارة الإسلامية) في عام 2001 في ورقة قبل الطباعة (Paper Before Print): “إن أقدم وثيقة مؤرخة ومكتوبة على الورق صُنعت في أوروبا هي وثيقة صادرة عن ديوان الكونتات النورمانديين في صقلية، تم التصديق عليها عام 1100”. إمن خلال معركة طلاس هذه انتشرت تقنيات صناعة الورق في الشرق الأوسط، ثم في أوروبا. هذه الثورة الورقية ساعدت في نشر القرآن الكريم والأعمال العلمية والفلسفية، وساهمت في ما يعرف بالعصر الذهبي الإسلامي. في العصر الرقمي، لا تزال نتائج هذا اللقاء المفاجئ جِد واقعية، كما يؤكد جان إيف مولييه في كتابه “تاريخ بائعي الكتب والمكتبات” (Histoire des libraires et des librairies): “لا يزال اليوم الكتاب الديني يشكل ما بين 15 إلى 20 بالمئة من إنتاج الكتب في الدول العربية -الإسلامية، بما فيها باكستان وإندونيسيا وإيران، مقارنة بأقل من 5 بالمئة في سائر دول العالم. »
أننا مدينون بذلك لتلك المواجهة المنسية التي غيرت مجرى التاريخ ونقل المعرفة. فغالبا ما يُشتبه في أن الصين تنسخ العالم قبل أن تصنعه. إلاّ أن معركة طلاس أثبتت لنا خلاف ذلك.