“الحديث عن الحرب بات كالحرب مفسدًا، غير أنّي أنتمي إلى ضحايا سنّ الفيل، وفي الإحساس نفسه أنتمي إلى الضاحية الجنوبيّة وإلى المخيّمات. أنا من حزب مَن مات. كلّهم على مسافة واحدة من الله، لأنّ المعذَّبين هم من جسد المسيح المجروح الجالس عن يمين الله. إخوتي ماتوا في سنّ الفيل، والحسين يستشهد في الضاحية، وفلسطين جنازتها في لبنان” (المطران جورج خضر، “من سنّ الفيل والمخيّمات”، النهار 28 أيّار 1985).
نستذكر كلام المطران جورج خضر، إبّان الحروب اللبنانيّة، لنتكلّم على حلب. خضر اعتبر نفسه متماهيًا مع قتلى سنّ الفيل المسيحيّين، وقتلى الضاحية الشيعة، وقتلى الفلسطينيّين السنّة. قال إنّه ينتمي إلى “حزب من مَات”، حزب الضحايا. كلّهم اعتبرهم إخوته. لم يحزن على المسيحيّ أكثر ممّا حزن على المسلم. لم يشمت بالقتلى إلى أيّ طرف انتموا. كلّهم باتوا ينتمون إلى جسد واحد، “جسد المسيح المجروح”. ما فرّقته الدنيا يجمعه دم يسوع المسفوك حبًّا بالعالم كلّه.
أنا أنتمي إلى ضحايا حلب الغربيّة وحلب الشرقيّة على السواء. أنتمي إلى ضحايا سوريا كلّها، سوريا الأمّ الثكلى التي “لا تريد أن تتعزّى” (متّى 2، 18)، لأنّ أبناءها ليسوا بموجودين. أخذهم الموت من حضنها. هي أمّي، وهم جميعهم إخوتي. فكيف أفرّق بين أخ وأخ؟ كيف أحبّ أحدهما أكثر من الآخر؟ كيف أسرّ بموتهم؟ كيف أكرههم؟ كيف أشمت بهم؟ يا إلهي، “لقد أكثرنا قتلانا في هذه المدينة، وملأنا أزقّتها من القتلى” (حزقيال 11، 6).
نعود إلى المطران جورج خضر، أروع مَن كتب عن الرجاء في زمن الحرب. يقول: “الوطن ليس ميراثًا للأبناء المسرفين يبدّدونها… الوطن لم يستودعه الله أيدي قذرة. إنّها اختلسته… الأوطان تهدّدها خطيئاتها… لقد ملّوا كلّهم الحرب والحديث عن الحرب، وعن المبدئين والمسؤولين، عن الخونة والصالحين. ماذا يبقى من البطولات إذا “اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي اقترعوا” (نبوءة عن المسيح المتألّم)… إنّ كمّية الدم وكمّية الرعب تبطلان نوعيّة كلّ غناء لحّنوه لأنشودة الحرب” (“هذه هي الشهادة”، النهار 6 أيّار 1979).
سوريا بدّدها المسرفون من أبنائها، المسرفون بالفساد وحبّ السلطة والطغيان وتأليه الذات. سوريا اختطفتها الأيدي القذرة الآتية من كلّ حدب وصوب، من داخل ومن خارج. وما قيمة البطولات والانتصارات إذا كان المواطن السوريّ وحده مَن يدفع الثمن من دمه ودم أولاده؟ هل انتصر قايين (قابيل في الإسلام) على هابيل؟
نختم مع المطران خضر، ذلك لأنّنا بأمسّ الحاجة إلى مَن يذكّرنا بالأخلاق السياسيّة والوطنيّة. يقول: “على الصعيد الخلقيّ لا بدّ من القول أنّ مَن ساهم في خراب البلد لا يستطيع أن يحكمه فإنّه قد خسر صدقيّته. ثمّ الناس ملّوا، ملّوا الأقنعة. يطلبون وجوهًا… سيطارد لبنان (سوريا في هذا المقام) كلّ مجرم حرب، فإنّ الأجيال الطالعة لن تحمل مسؤوليّة البلد ما لم ترفض تجار الموت رفضًا كلّيًّا” (“من سنّ الفيل والمخيّمات”).
سوريا لن تصنعها الحروب. سوريا سوف يصنعها الساعون من أبنائها إلى السلام. هؤلاء هم أبناؤها البررة. وهم الشهود لوحدتها ولقيامتها الآتية بلا ريب.
الأب جورج مسّوح