كتب د. جورج صدقه في موقع الجمهورية بتاريخ 8 كانون الثاني 2022
تعليقاً على مقالتي الأسبوع الماضي عن الطبقتين اللتين تتشاركان مسؤولية انهيار الوطن، لصوص السياسة ولصوص المصارف، رأى أحد الاصدقاء أنّ هناك طبقتين أخريين تلعبان دورا رئيسيا في الوضع السياسي العام وهما طبقة العسكر وطبقة قيادات الطوائف الروحية. وهما طبقتان حاضرتان في مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية، قياداتهما يتشاركون القرار مع السياسيين وهم حاضرون في مختلف المناسبات الوطنية وحاضرون على المسرح الاعلامي ولهم جمهورهم ومتابعوهم، كما لهم قراراتهم التي تنعكس على الوضع العام. هل يمكن اعتبار انّ هاتين الطبقتين شريكتان مع رجال السياسة ورجال المصارف في انهيار الوطن؟
في دول العالم الثالث، حيث تهيمن الأنظمة السلطوية، يلعب العسكر دورا أساسيا في الحياة السياسية وغالبا الدور الأول. هذه هي الحال في غالبية العالم العربي الذي شهد عشرات من الانقلابات التي نفّذها العسكر للاستيلاء على السلطة. وفي كل هذه الدول يلعب العسكر الدور الأول أو يكون سلطة ضامنة للسلطة السياسية. بينما، في الدول الديمقراطية، يلعب هذا الدور الدستور والقوانين التي تضمن استمرار النظام واستقراره، فيما العملية الانتخابية تضمن المداورة في السلطة. أما في الدول التي يرعاها العسكر فالانتخابات شكلية.
الواقع أن دور العسكر في لبنان لا يشبه دوره في الأنظمة السلطوية. فمنذ الاستقلال لم يكن العسكر شريكا في السلطة في لبنان ولا رديفا لها ولا وصيا عليها، حتى مع وصول اول قائد جيش الى رئاسة الجمهورية مع فؤاد شهاب. إحدى ميزات لبنان ونظامه السياسي هو تداول السلطة الذي كان فعليا حتى بداية الحرب عام 1975. من هنا مقولة ان في لبنان فقط، بين الدول العربية، يوجد رؤساء جمهورية سابقون على قيد الحياة.
ويتأكد غياب العسكر عن السلطة في انقسامه بداية الحرب وتبعية كل قسم منه لفريق من المتقاتلين. وهذا ما يؤكد ضعف المؤسسة العسكرية في نظام طائفي، ووضع يد السياسيين على الهرمية العسكرية من خلال التعيينات والتدخّل في شؤون المؤسسة العسكرية. فضلا عن أن مستوى حياة ضباط المؤسسة كان رفيعا جدا والتقديمات التي كانوا ينعمون بها تجعلهم قانعين بواقعهم الوظيفي. لذلك لا يمكن اتهام المؤسسة العسكرية بأنها طبقة ساهمت في الانهيار، لا بل ان متانتها ووحدتها تشكلان ضمانة لوحدة الوطن.
الطبقة الأخرى، القيادات الروحية، وهي طبقة نافذة ولها دورها الكبير في مجتمع تقليدي حيث الدين ما زال من العناصر الأساسية في تكوين شخصية الفرد وثقافته وانتمائه الاجتماعي والمناطقي.
يمكن العودة بالدور الرئيسي الذي تلعبه القيادات الروحية في الحياة السياسية الى مرحلة قيام الدولة اللبنانية مع اعلان لبنان الكبير عام 1920 الذي قام بمسعى البطرك الماروني لدى مؤتمر الصلح الذي انعقد في باريس بعد الحرب العالمية الأولى. غير أنه يمكن العودة بعيدا في التاريخ في تحليل دور المرجعيات الروحية في لبنان لا سيما ان الأقليات الدينية قبل نشوء الدولة كانت تعتمد في جانب كبير في إدارة شؤونها على القيادات الروحية.
ومع قيام الدولة اللبنانية انتقلت السلطة الى رجال السياسة غير أن المرجعيات الروحية بقيت ذات دور مؤثر اذ ان النظام الطائفي يمنحها امتيازات ليس أقلّها نظام الأحوال الشخصية الذي يعود اليها، فضلا عن سلطة روحية – زمنية مؤثّرة نادرا ما يجرؤ السياسيون على التصادم معها.
وقد لعبت بعض القيادات الروحية في ظروف معينة أدوارا حاسمة كما تغطية البطريرك صفير لاتفاق الطائف من أجل وقف التقاتل بين المسيحيين، أو كما مواقفه الصلبة في التصدّي للسيطرة السورية وإنشاء خليّة قرنة شهوان التي أطلقت حركة التحرير، أو أيضاً مواقف مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد الذي سعى الى مصالحة وطنية لتسريع الانسحاب السوري ما كلّفه استشهاده، كما رفض السيد موسى الصدر تبعية طائفته للخارج ما تسبّب في تغييبه.
هذه الأمثلة تؤكد ان رجال الدين يمتلكون سلطة حقيقية يمكنها أن تلعب دورا أساسيا في الحياة السياسية. طبعاً تتفاوت سلطة رؤساء الطوائف تبعا لموقع كل طائفة، فرؤساء الطوائف الصغيرة يبقون غالبا في الظل، بينما يتقدّم رؤساء الطوائف الأساسية المارونيّة والسنّية والشيعيّة. وفيما يلاحظ تماهيا كبيرا عند الطائفة الشيعيّة بين القيادات الروحيّة والسياسيّة في الوقت الراهن، فإنّ المرجعيتين المارونيّة والسنّية تملكان هامشا كبيرا من حرّية الحركة والموقف، ولهما قدرة كبيرة في التأثير على الوضع العام.
لذلك السؤال: لماذا لا تستخدم بكركي ودار الإفتاء سلطتهما في التصدّي للطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة ولماذا لا تطلقان دينامية تتصدّى للانهيار الحاصل؟
دار الإفتاء غالبا ما انحجبت تاركة الدور للقيادة السياسية لا سيّما في عهد الرئيس رفيق الحريري وامتدادا الى سعد الحريري، محاولة الوقوف وراءه لدعمه في خياراته ومن أجل شدّ عصب الطائفة. وبالتالي لم تسع الى محاربة الفساد او تصحيح المسار الوطني. ويؤخذ على المفتي «انكفاؤه» وتحاشي أي صدام مع القيادات السياسية.
تبقى بكركي وهي أكبر من موقع طائفي بالنظر الى دورها الوطني الجامع والى مواقفها التاريخية والى مواقع القوة التي تمتلكها على الصعيدين الوطني والخارجي. فهل لعبت بكركي الدور المطلوب منها في التصدي للفساد ولأخطاء الطبقتين السياسية والمصرفية، لا سيما انها معتبرة «أم الصبي» والساهرة على الكيان؟
يمكن للبعض الإجابة من خلال خطابات البطريركية ورسائلها الدورية وعظات الاحد والقول ان البطرك لا يتوانى عن توبيخ هؤلاء واتهامهم بكل الاتهامات وتحميلهم مسؤولية الانهيار.
لكن، رغم جهود بكركي يصعب تبرير اكتفائها بالكلام، كما يصعب تبرير فتح أبوابها أمام لصوص المصارف ولصوص السياسة. منذ سنوات وخطاب بكركي لم يعد مسموعا، وعظاتها لا تتخطّى حيطان كنيسة الصرح فيما الناس يعانون الظلم والجوع بشكل لم يعهده الوطن من قبل وقد بات الكيان في خطر والشعب على دروب الهجرة. لذلك تبدو بكركي مسؤولة بشكل مباشر، فهي صاحبة الوزنات العشر، وهي قادرة على تغيير الواقع وان كان ذلك يتطلّب منها هذه المرّة ان تنتقل من الكلام الى الفعل.
كل مقال او منشور مهما كان نوعه لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل عن رأي صاحبه