أين هم المسيحيون اليوم في لبنان؟ وما هي حالهم؟
سؤالان صعبان لسببين: الاول يتأتى من غموض الظرف الحاضر والتباس تداعياته، وسرعة التحولات في المنطقة العربية والاسلامية، والثاني ناتج من عدم امكان ان تكون محايداً أو وسطياً وسط اتون متفلت من كل قيد وردع.
حين يطلق البعض اسئلة عصية مثل: ما هو مستقبل المسيحية في لبنان؟ وما هي تداعيات قتال المذاهب الاسلامية عليها؟ فإن بعض الاجوبة المعلبة تسرع في القول إنّ روح الله يرفرف علينا ليحمي المسيحية واتباعها من الموت والفناء، ولا شيء نخاف منه. ستجد المسيحية في النهاية مخرجاً وملاذاً، متناسين ان كنائس عديدة اختفت عن خريطة المشرق العربي ومغربه وباتت اديارها ومنازل ابنائها أطلالا وخرائب.
واذا كان روح الله يعمل، وهو يعمل فعلاً، ونحن نؤمن بهذا ايماناً مطلقاً، فإننا نرد السؤال على اصحابه متسائلين عن مسؤوليتنا الشخصية والجماعية عن حرية ابناء الله، والجميع هم ابناؤه وصنع يديه، وعن التفتيش الدائم والمستمر عن حلول ومخارج.
ب – انطباع مثبط للعزيمة
الانطباع الاول الذي يمكن المرء تأمله هو واقع المسيحية المزري. نحن نشهد بأم العين تراجعاً مخيفاً في الديموغرافيا وانحساراً ظاهراً في الجغرافيا، وشعوراً بالقرف عند الكثير من ابنائنا بفعل التشرذم والفوضى والخطب الرنانة التي تفتقد الى سند موضوعي ونهج علمي يؤسس لإجابات صحيحة وعلاجات شافية لمسائل حيوية سياسية واقتصادية وتربوية، ناهيك عن موجة تشاؤم اثر انهيار الثقة بمعظم القيمين عليها رجال دولة وسياسة ودين.
نميل بالطبع الى التقليل من هذا التوجه التشاؤمي، وأرغب شخصياً في اضفاء الكثير من التفاؤل. لكن غرق الكنيسة وأبنائها في عالم معقد ومواقف متناقضة ومصالح اقتصادية متباينة يبقينا أقرب الى ضفة التشاؤم.
بالطبع المسيحيون لا يعيشون في جزيرة معزولة ولا يطلبون لأنفسهم ما لا يطلبونه للآخرين أي الحرية والازدهار والامن، لكن المجتمعات العربية والاسلامية مأزومة كلها وتعيش مرحلة حرجة من تاريخها، وتبقى المنطقة بأسرها عند حافة بركان اشعله الآخرون وسقط فيه العرب والمسلمون. وبالطبع تشكل المسيحية أقلية تتحمل طوعاً أو قسراً هذا الواقع وتنوء تحت اثقاله.
ازاء هذا الواقع المأزوم لم يستطع المسيحيون مواصلة دورهم كأقلية ناشطة وفاعلة بفعل ازماتهم الذاتية وتعدد اتجاهاتهم وارتباطاتهم وتنوع ثقافاتهم وقلة معرفة أصول دينهم. بالطبع الصراعات المسيحية الداخلية ليست وليدة الأمس، بل هي خلافات مستحكمة مذهبية وحضارية.
يقع المسيحيون، كما المسلمون، في خطأ كبير حين يدخلون الدين في صلب السياسة وهذا يشّوّه الدين، كما السياسة، لأن الحقيقة الثابتة لا يمكن دمجها في وقائع سياسية متحركة ومتحولة تجبر الدين على التراجع او التقدم، وفق منطق هذه السياسة وتعقيداتها وتدخل رجال الدين في حلقة مفرغة يجترون فيها انفسهم، وهم الاقل معرفة في تطور وتوجه بوصلة السياسة وزواريبها وفلسفاتها.
إن المسيحية ما زال أمامها الكثير من الفرص ليدلل ابناؤها على مقدرتهم على تجاوز المآزق والسير مع الآخرين جنباً الى جنب من دون ان يكونوا تابعين.
على المسيحية ان تبدأ اولاً بأصلاح مؤسساتها، وهذا عمل يقتضي المزيد من الشفافية ووضع الرجل الصالح في المكان الصالح، والخروج من المحسوبيات، والنظر الى مصلحة الشعب قبل النظر الى مصلحة المؤسسات الكنسية المسيحية، وايضا الخروج من الصراعات الكنسية الداخلية وترتيب مصالح الشعب ووضع أسس جدية للمحاسبة والمراقبة. ان صوت المسيحية البنوي يجب ان يعلو على كل الاصوات الداعية الى الفرقة والموت والاستعباد، وفي المقابل يجب الا تشتري خصومات مجانية. ان الجميع من لحمنا ودمنا وهم مثلنا ابناء آدم وحواء، وعلينا ان نوجه اليهم رسائل مصالحة من دون ملل أو كلل وعلينا تذكيرهم بمواطن الخطأ ومواطن الصواب بلغة انسانية راقية وحب صادق اكيد.
إن عبثية خلافاتنا تناقض لب وجوهر محبتنا، يجب على السياسة التي نمارسها أن ترتقي الى مستوى النبل لتجذب اليها الآخرين، وعلى الكنيسة ان تساهم مساهمة خلاقة في القضايا الانسانية الملحة، وان تبقى الضمير المؤنب والعقل النير الذي يكتشف المواهب من اجل عيش الحرية والكرامة الانسانية، لأن مسيحها كوني الهوى عالمي النظرة ولا يقبل أن تحشر كنيسته في خندق ضيق أو أزمة عابرة.
الخوري اسكندر الهاشم
عضو في الإتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة – لبنان (أوسيب لبنان)