“لا تزال تعزيتي و ابتهاجي، رغم عذاب لا يشفق، اني لم انكر كلام الله القدوس (ايوب ٦: ١٠)
بدأ النهار حارّا اكثر من المعتاد، حتى الطبيعة تبدو متآمرة على شعب تآمر عليه البشر، وأذلّه في لعبة تسويات، وأهمله عبر صمت قاتل.
وصلت مدرسة مار يوسف، فاستقبلني كاهن بالترحاب العراقيّ المعهود، يجعلك تشعر أنك من صميم العائلة ويسقط كلّ الحواجز.
المكان أهدأ من المعتاد، لا أصوات لعب أطفال، ولا نسوة تنظفن المكان. “انه وقت صلاة المسبحة” يقول أبونا رائد. افترشوا مدخل مدرسة، اجتمعوا حول اخت راهبة دومينيكية يصلون. نظرت الى وجوههم وقت الصلاة، رأيت كل أنواع التعابير، الحزن، التعب، القلق، عيون دامعة، شفاه ترتجف. شاب ينام في زاوية على فرشة رقيقة جدّا، يملأه الغضب، وضع ساعده فوق عينيه كأنه يحاول تغيير الواقع، او العودة بالزمن الى الوراء. يكفيهم ان يعودوا بالزمن الى الوراء شهراً او شهرين لبجدوا انفسهم في بيوت قرقوش الجميلة، بيوت سخوا عليها وبنوها بعرق كدهم، او في حقول الموصل وبغديدا وأرجاء سهل نينوى.
طلب الأبونا مني كلمة، لكن ما عساك تقول في وقت ألم الآخرين، فكل كلمة تقولها تبدو صغيرة أمام طهارة صبرهم وشدّة ظلم يعانوه.
اخبرتهم عن اختبارنا اللبناني، عن تهجيرنا وحربنا وهجرتنا، عن سقوطتنا وقيامتنا، عن عودتنا الى بيوتنا بعد عقود ثلاث. اخبرتهم انهم شهادة للجميع اليوم. في ألمهم هذا يشهدون للمسيح، ولأولية المسيح. شكرتهم على هذه الشهادة التي يؤدونها منذ الف وسبعماية سنة، اضطهاد يلي اضطهاد، حرب تليها حرب، وهم ثابتون في الايمان، راجون خلاص الله.
انطلقوا بنشيد ليس بجديد عليّ، ولكن للمرة الأولى أفهم معناه بملئه:
“شكراً لله الذي يقودنا في موكب النصرة كلّ حين، كفقراءٍ لا شيءَ لنا ونحن نغني نغني الكثيرين”. الجماعة يدركون، رغم كل شيء انهم يسيرون في موكب انتصار، وأن الله حوّلهم الى علامة غنى رغم فقرهم وفقدانهم لكل شيء.
قالت لي سيّدة من بينهم، “ابونا، قل لنا شيء عن كلمة الله، اشرح لنا الانجيل”. في محنة مثل هذه، شعب يطلب كلمة الله. تكلمنا عن سفر أيوب، صاروا كلهم ايوب اليوم، ايوب هو وائل وجرجيس وسارة ومريم ولمى، ايوب الكتاب المقدس هو هذا الوالد النبيل الذي قال لي ونحن نجلس على الرصيف خارجا: “وان عدنا، او بقينا هنا، او هاجرنا، فهل سيكون عندي وقت كاف لاجمع لاولادي ما كنت قد جمعته وبنيته لهم؟”، ايوب هي هذه الامرأة التي ولدت ابنها في خيمة في الحديقة، ايوب هو هذا الرضيع ابن الشهرين الذي مات من شدة الحرّ ومن الاسهال. أيوب هو
اديب والد طفلة معوقة، جاءت قذيفة تسلبه ابنه ذا السنين الخمسة، وجاء ظلم البشر يلقي عائلته في خيمة. أيوب هم هؤلاء الكهنة والراهبات الذي يغسلون قميصهم ليلا ليلبسوها نهاراً، لانهم تركوا كل شيء خلفهم. ايوب هي تلك الطفلة النائمة في خيمتها، تختضن لعبتها، تعطيها الحنان، وتنام على رجاء ان تستيقظ من كابوس تحياه طيلة النهار. ايوب هو هذا العجوز المرميّ في فراشه يتألم، هي تلك الطاعنة في السن تسند رأسها بكفها وتطير بفكرها الى قريتها وأرضها، لا تريد ان تموت هنا، تريد ان تدفن في ارض الاجداد وقرب كنيسة الرعية.
غادرتهم للانطلاق الى مخيم آخر، واتفقنا على اللقاء مجددا عند السادسة لنحتفل بالقداس. عدت نحو الخامسة، وجدتهم في ورشة تنظيف لباحة الكنيسة، ليحّولوها الى مكان يليق بحلول ابن الله. اولاد ينظفون الملعب، شبان يحملون مكتبا حديديا قديما لجعله مذبح المسيح. فتى يحمل علو رأسه كراسي بلاستيكية، بدأ كنملة ترفع جبلاً، مميز عندهم حب الخدمة، والعطاء الى اقصى الحدود. اخت راهبة حوّلت بفن الراهبات المميز وبما توفر من معدات هذا المكتب الى مذبح جميل. كسته بفراش سرير، كم هو معبر، فراش يلامس كل يوم اجساد اطفال منهكين ومرضى متألمين، تحول الى غطاء مذبح: ما اظنّني رأيت يوما مذبحا اجمل وابهى.
احتفلنا بالقداس، لا لباس كهنوتي متوفر، ولا برشان. خبزهم اليومي صار البرشان. يسوع يحلّ في تفاصيل حياتنا، ليحوّل واقعنا الاليم الى واحة حضور الوهته.
قرأنا انجيل التطويبات، الجموع التي كانت حول يسوع عند الجبل، متعبين، جائعين هم هنا اليوم، عند جبل التقدمة الافخارستية. عندما دعا يسوع تلك الجموع رآهم كخراف لا راعي لهم. اما هؤلاء فرعاتهم حولهم، كهنتهم وراهباتهم لا يفارقونهم. كم هو فخور يسوع بالاصدقاء الذين دعاهم. لم يهربوا، لم يفتشوا عن الاسهل، لم يفقدوا الشجاعة. انهم رعاة، لا أجراء، الاجير يهرب اما الراعي فيبذل ذاته صونا للقطيع.
“اذهبوا بسلام”، انتهى القداس، وابتدأ القداس. ولكنهم لا يريدون الذهاب، يأتون حاملين اطفالا ليباركهم الكاهن، يطلبون مسبحة للصلاة، حتى مسبحات الوردية صارت حاجة ماسة هنا.
يستعدون للعشاء مما وفرته العناية، وانا استعد للعودة. تمسكني امرأة تطلب دواء لطفليها، واخرى بركة لمريضها. والراهبات يحمللني ثمْر العراق، من بلح ارضهم، كشكر لحضوري. لا تعرف الراهبات ان على انا ان اشكر شعباً ظل اميناً في الاضطهاد يقول مع ايوب الصدّيق: “لا تزال تعزيتي و ابتهاجي، رغم عذاب لا يشفق، اني لم انكر كلام الله القدوس”.