عاش سيرة زهد ونسك في تجرد عملي منقطع النظير؛ فلم يكن له أين يسند رأسه… غريبًا ونزيلاً، لا قِنية له ولا زاد ولا زواد؛ ولا هيئة له ولا منظر ولا مشيئة. فبالرغم من أنه عاش في القرن العشرين؛ إلا أنه فاق كثيرين في حياة الفقر الاختيارﻱ، وأرجع إلى الأذهان نماذج وأيقونات رهبان وسواح القرون الأولى… صائمًا ساجدًا مصليًا متصلاً بالمسيح ملك القديسين في كل حين. وقد أعطى الدرس بأن حياة القداسة ممكنة في كل جيل؛ وهي ليست بمستحيلة؛ لمن يطيع ويحيا ويلقي نفسه على الله الحي بالتمام.
عاش أبونا يسطس حياة الصمت المقدس عارفًا قيمة اللحظة؛ فتمرَّس على الإمحاء التام؛ تابعًا الفقير الأبدﻱ ، معتمدًا على المعونة الإلهية… بلا مأوىً ولا قوتٍ؛ عدا الفُتات… لا كرامة له؛ ولا كانت نفسه ثمينة عنده.. مهتمًا بالسكون في الحياة أكثر من الاسم والشكل، صائرًا كالملائكة بلا هَمٍّ، وقد شق عنه ثوب العالم وبريقه، ساكنًا مواضع الصديقين في جبل أنطونيوس الكبير.
شابَهَ الشهداء في نسكه وإنكار ذاته واستشهاده البطيء والطويل الأمد، كناسك وعابد ضمن الشهداء الذين بلا سفك دم، فقد قبل الاحتقار مثل المديح والعوز مثل السعة، ساعيًا وراء الهدف الأبدي في مصادقة سرية وإلتصاق بالله، هاربا من كل تشويش بشري حيث وجد نياحًا، حافظًا وصايا الروح مترفعًا عن كل ما هو باطل تحت الشمس.
لهذا تركت أعماله النسكية علاماتٍ في وجهه وجسده، وكان بركة وقدوة وقيمة مضافة لمن عاينوه وعاشوا في زمانه، لامسين مجد الله وعطر القداسة في هذا الراهب الصامت البسيط.. الذﻱ صار هو في حد ذاته عظة مقروءة؛ في عيشة الجهالة من أجل المسيح؛ وفي سيرته العطرة الخفية، كمزدرىً وغير موجود؛ لكنه في ذات الوقت عرف قيمة الوقت؛ وكيف أن الأيام شريرة؛ فسعى ليفتديها؛ وليلحق بقطار الخلاص من غير تأجيل أو تهاون؛ حاسبًا قصر الأيام. فمَنْ هو الجاهل إلا الذي ترك عنه التوبة، واستكان الى الاسترخاء والإهمال وغفلة التأجيل؟!
وبالرغم أن أبانا يسطس كان يعيش في قلايته داخل الدير؛ إلا أنه كان كسُكان المغائر؛ عائشًا في وحدة نفسية وفكرية؛ مقتديًا حرفيًا بالمسيح… لا يتكلم قط؛ إلا في السؤال عن الوقت (الساعة كام؟) متحفظًا على اللحظة وأهميتها لخلاص النفس؛ الأمر الذﻱ جعله لا ينشغل بأﻱ حديث بشرﻱ؛ عدا كلمات الشكر (نشكر الله).
وقد رُوﻱ عنه أنه كان يفر من الكنيسة بعد انتهاء صلوات السواعي؛ حتى يكون أول الذين يخرجون منها كالسهم إلى قلايتة؛ أو غالبًا ما كان يهيم لينفرد بالعريس الإلهي؛ حيث كانت لذته العظمى في قوة السكون أمام الحضرة الإلهية… معتبرًا أنه رجل ميت؛ وأن له في القبر سنين. لذلك الميت لا يتكلم؛ لا رأي له ولاهوىَ، متممًا قول داود النبي (صرتُ كبهيم عندك؛ ولكني معك كل حين) (مز ٧٣ : ٢٢).
لقد تبعته آيات وأمجاد أظهرها الله في إنائه البسيط؛ وتأثر بسيرته نفوس كثيرة من المؤمنين؛ ومن الرهبان الذين عاينوا وشهدوا لثبات حياته التي سُمعت فيها كلمات لا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها، وإن شرب شيئًا مميتًا لم يضره. وأعتقد أنه لو تُركت الثياب التي كان يرتديها لأيام؛ ما رضي أحد يأخذها؛ لحالتها الرثة والمهلهلة والموصولة بخرق؛ حسب ناموس البرية الجوانية؛ التي سكنها أطهار السيرة الذين صانوا عهد الرهبنة بالزهد الاختياري، إلى الحد الذﻱ فيه تصالحت معهم الوحوش ومسكوا الحيات والعقارب بأياديهم دون أن تؤذيهم؛ وكأنهم في الفردوس المستعاد.
إن الكنيسة كلها اليوم تنظر إلى مثاله وإلى نهاية سيرته لتقتفي طريقه؛ شغوفة ودائمة السؤال عن انطباعات هذة الشخصية التي لن تُمحَى، محتفلين بذكراه، حيث مقصورة جسده (المرتيريوم) التي شُيدت تخليدًا لتذكار حياته ورقاده الذﻱ أرضى بهما القدوس.. وقد رأينا أغصان شجرته وأولاده كفروع خارجة من الأصل، مليئة بالثمرات الروحية… واثقين أن روحه الطاهرة وبركته لم تبارحنا…فأعماله وأتعابه غير المتكلفة؛ ذيع صيتها ولا زالت تنهضنا من البهرجة والتنعم وزخارف الدنيا الزائلة، ومن وحل التعظم والإعتداد، لنسلك طقس الساعين حسب قانون دعوتهم السماوية.
اطلبْ من الرب عنا يا أبانا يسطس الجوهرة الأنطونية؛ لكي ينعم الله لنا بغفران خطايانا. اطلبْ من الرب لكي يرحم الله خليقته وينجي الذين جبلهم بيديه؛ ويتحنن على كل نفس متضايقة ومأزومة، مشرقًا بمجده وخلاصه علينا الآن وكل أوان.