في اليوم الثامن لقيامة الرب تحتفل الكنيسة (بأحد توما) ويُسمَى (أحد الحدود) أو (الأحد الجديد) وهو واحد من الأعياد السيدية الصغرى؛ لأنه ذكرى تثبيت الخلاص، فاليوم الأول للقيامة واليوم الثامن لهما وحدتهما الحميمة؛ إذ بعد ثمانية أيام (أوكتاف القيامة) Οκταβ أي بعد سبعة أيام نعيِّد بأحد توما في الأحد التالي لأحد للقيامة؛ لأن توما لم يعُد رمزًا للشك؛ بل ليقين القيامة.
وكذلك اليوم الثامن يشير إلى الدهر الآتي. ونحن نعيِّد في هذا اليوم الثامن لتكثر للبيعة الإيمان والسلام؛ وتتحقق شهادة القيامة، إزاء كل الشكوك وفوق كل الشكوك بأن المسيح (حقًا) قام بنفس جسده الذي عُلق به على الصليب… وقد ورثت الكنيسة الطوبى التاسعة لجميع الذين آمنوا ولم يروا؛ لأنهم مُطوَّبون بعمل يحوي الأعمال جميعًا؛ ويرتقي فوق كل المُعضلات المانعة للخلاص.
لقد كان التلاميذ مجتمعين بعد ثمانية أيام ومعهم توما؛ في (يوم أحد) يوم الرب المقدس؛ فكما بدأ الخلق الأول يوم أحد، يبدأ الخلق الثاني أيضًا في اليوم عينه… جاء يسوع وسط ترقب أول كنيسة اجتمعت بكامل هيئتها… ظهر لهم بطلعته البهية؛ كغالب للموت وقاهر للهاوية، تشع عبر جروح يديه ورجليه طاقات النور البهيج؛ وموجات الخلاص والشفاء الأبدي؛ تسري كنهر حياة؛ يغسل أساسات الكنيسة بغسل الحياة وغفران الخطايا.
جاء يسوع ووقف في الوسط؛ لأنه جاء للجميع والجميع له… ليس كبير أو صغير بينهم… هو الرأس للجسد؛ وهو بؤرة ومركز حياة كنيسته؛ والكل عنده مختار ومدعو ومُكرم… وهو يأتي إلينا حاضرًا معنا بمجده ومجد أبيه والروح القدس، مهما كانت استحكامات الإغلاق والمخاوف وقلة الإيمان. أتى إليهم بالرغم من أن جميع أبواب العِلّية كانت موصدة؛ لكنه وحده هو الباب؛ وهو وحده الذي يفتح ولا أحد يغلق؛ وهو المولود من البكر مريم الدائمة البتولية التي ولدته وبتوليتها مصونة.
دخل والأبواب مُغلقة ليُرينا أنه لما خرج لم يحل البتولية… دخل العِلّية كما خرج من البطن… صوَّر الأبواب المغلقة لبتولية أمه. لم يفتح لما دخل وخرج من البطن؛ وخواتيم البتولية مصُونة، فقوّته تحدّت كل الحدود؛ لأنه غير المحدود الذي لا يُحدّ. دخل من الأبواب جسدًا وعظامًا؛ جسوه ولمسوه وسمعوه وعاينوه… وهو الذي ينضح بسلامه ورجائه ويخلص جميعنا من السبي.
بحضوره في العلية يصير هو سلامنا (سلام لكم) يسكب سلامه (يا ملك السلام أعطنا سلامك) ويمنحه كعطية تفُوق وتُذهل كل العقول… ليست كتحيّة مجردة؛ لكنها موهبة تسري في النفوس والقلوب والأفكار، تترسخ وتدوم مستمرة وسط الضغطات والعواصف وتجارب العمر.
سلامه بدد خوف التلاميذ المنكمشين؛ فقد ظهر لهم والأبواب مغلقة لسبب خوفهم؛ وقد أحكموا غلقها بمتاريس وأقفال. لكن المسيح هو نفسه الباب؛ وهو الذي بيده مفاتيح كل المغاليق. ألغى الأولويات والترتيبات والقوانين؛ لأنه فوق الزمان والمكان والحدود والحُجُب. مانحًا سلامه وفرحه كعطية مجانية تسد فقر وحوجة كل زمان… وبركة سلامه حاملة لقوة وثمرة القيامة؛ وهي التي تجعلنا سفراء سلامه في العالم؛ المبشرين بأخباره المفرحة.
قيامته والحجر موضوع؛ وظهوره والأبواب مغلقة؛ ووقوفه في الوسط (المركز)؛ وعطية سلامه جميعها هي علامات قيامته التي تأكدت ببراهين حية كثيرة لا تُقاوَم… فمسيح القيامة هو مسيح الصليب؛ الحي والذي كان ميتًا؛ وها هو حي إلى أبد الآبدين… ذاك الذي قُضي عليه وكأنه (قُطع من أرض الأحياء). وها هو بجروحه المُميتة يتراءَى لهم حيًا واقفًا أمامهم؛ فقد أُعطي أن يكون له حياة في ذاته.
وعلامات آلامه وجروحه الغائرة هي نفسها شهادة قيامته؛ إذ أنه قائم وكأنه مذبوح؛ كي يشترينا ونصرخ نحوه قائلين: (اقتننا لك يا الله مخلصنا؛ لأننا لا نعرف آخر سواك؛ اسمك القدوس هو الذي نقوله؛ فلتحيا نفوسنا بروحك القدوس؛ ولا يقوَى علينا نحن عبيدك موتُ الخطية؛ ولا على كل شعبك)… علامات آلامه هي براهين مجد قيامته التي قتلت أوجاعنا؛ ومنحت الجسد البشري عطية الأبدية المقدسة؛ خالدًا غير مائت.
لقد أخضع المسيح القائم جسده للرؤية وللمس؛ لتكون خبرة صادقة وشهادة عيان في استعلان شخصه (قد رأينا الرب). لتكون قيامته موقع التصديق للعقل وللقلب؛ لجميع من أبصروا ولمسوا وسمعوا وتحسسوا طريق كرازة الحق؛ ساجدين ناطقين بصوت واحد: (ربي وإلهي)… فجروح صليبه المميتة باقية وظاهرة؛ وقد صارت علامات حياة… وهذه من معجزات الكرازة التي تأسست على العيان واللمس والإمساك بنار اللاهوت.
فقد أحدثت أهوال آلام الصليب صدمة عقلية لدى الكثيرين؛ ومن بينهم توما الذي تشكك وتشكشك فكره بالمسامير والطعنة والأشواك والجلدات والدم والماء النازفين… هذا الشك الذي قاده لملامسة جراح المسيح كي يشفي كل جراح الشك بشكل أفضل من لو كتب مجلدات لا تُحصَى.
لذلك أعاد له الرب نفس كلماته التي نطق بها مناديًا: يا توما (هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي؛ وهات يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا). وكأن الرب في رحمته حقق له الشروط المُغلّظة التي طلبها كي يؤمن وحتى لا يكون غير مؤمن… لذلك أجابه توما قائلاً: (ربي وإلهي)؛ مسجِّلاً أول اعتراف علني بألوهية المسيح القائم حال ظهوره أمامهم بلحمه وعظامه وبآثار الآلام وبصوته هو هو؛ بينما الأبواب مغلقة… إنه الملء الذي يملأ الروح والبصيرة والقلب… الملء الذي لا تسعه عين ولا يحيطه فكر أو إدراك.
إن هذه الجراحات التي أعلنها الرب وأظهرها في ظهورات قيامته؛ ستظل ظاهرة في مجيئه الثاني؛ عندما يأتي على السحاب وتنظره كل عين والذين طعنوه أيضًا؛ تلك العلامات هي سر حياة وفرح وغفران وخلاص ورجاء وبهاء المنتظرين… وهي في ذات الوقت علامة قضاء وفزع رهيب وخزي مخيف للذين رفضوها وازدروا بها… هذه الجراحات هي جراحات حُبه ورحمته وخلاصه لنا… هي الجراحات التي أسست كرازة التلاميذ الرسولية، وهي التي تعلن شفاعة الابن الوحيد عنا لدى الآب، وهي أيضًا التي ستبقى لدينونة الأشرار في يوم الرب العظيم.
إن هذه الجراحات تدعونا اليوم جميعًا لنلمسها ونجسها كي نتقوى ونتثبت بالتوبة وأعمال التوزيع والخير ووليمة الإڤخارستيا، فأي مَن لم يذُق الآلام؛ ليس له الحق في خبرة القيامة.
وجراحات المسيح تنادينا حتى الآن للملامسة ولذوق خبرة القيامة؛ والشركة مع مسيح المعوزين والمنقطعين والمطحونين والمظلومين والعطاش. نتحسس فيهم مكان المسامير والطعنات؛ حتى نتيقن من قيمة النفوس الثمينة عنده؛ ومن ثَمَّ نشهد للحياة المُقامة المستترة فينا بالمسيح؛ والتي امتدت من الرأس إلى الجسد؛ فنفرح ولا يستطيع أحد أن ينزع فرحنا منا؛ ولا نُخفي قيامته؛ ونقول لكل متضايق أن مسيحنا قام؛ عندما نشاركه جروحه.
إن مسيحنا القائم يأتي إلينا في خوفنا وشكّنا؛ ليداوي ويشفي كل عاطفة سطحية وكل تساؤل وكل جزع وارتداد، يمنحنا سلامه وأجوبته؛ عندما يطلّ بوجهه علينا ويُسمعنا صوته المُفرح؛ محوِّلاً كل شك إلى حُجّة إيمان؛ ليس فقط ببراهين فلسفية؛ بل ببرهان قطعي مُعاش حسب الإنجيل؛ نعيشه في عِلّيتنا؛ في خفاء؛ معاينين عظمته الفصحية، ويكون هو لنا حياتنا كلنا ورجاءنا كلنا وشفاءنا كلنا وخلاصنا وكلنا وقيامتنا كلنا.