يتنازع المسيحيّين تيّاران أشار إليهما القدّيس بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية، حيث يميّز ما بين الذين يفتخرون بالجسد والذين يفتخرون بالصليب: “إنّ الذين يختتنون هم لا يحفظون الناموس، بل يريدون أن تختتنوا أنتم لكي يفتخروا في جسدكم. وأمّا من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح (…) لأنّي حامل في جسدي سمات الربّ يسوع” (غلاطية 6، 13-17).
المسيحيّة، وفق الرسول بولس، لا تقاس بعدد المنتسبين إليها بالمعموديّة، بل تقاس بعدد الذين يحملون في أجسادهم سمات الربّ يسوع. لذلك يحذّر الرسول المسيحيّين من الانقياد إلى لعبة الأعداد، ذلك أنّ المسيحيّة قيمة نوعيّة لا كمّيّة من الأجساد تحصى وتُعدّ. من هنا ندرك لماذا لم يدعُ المسيح المسيحيّين إلى التباهي بأعدادهم، بل تحدّث عن “القطيع الصغير” داعيًا إياه إلى عدم الخوف من العالم.
ينبّه الرسول بولس المسيحيّين إلى عدم الوقوع في فخ الذين لا يهمّهم سوى الافتخار بأعدادهم. فيتحدّث بوضوح عن أولئك الذين “لا يحفظون الناموس”، وعلى الرغم من ذلك يريدون من المسيحيّين أن يمارسوا الناموس كي يفتخروا بأعدادهم. فيما هو يعيد التذكير بأنّ المسيحيّ الحقيقيّ هو ليس مَن أتمّ الشريعة وحسب، بل هو ذاك الذي يحمل الصليب بلا انقطاع، هو ذاك الذي أصبح الصليب جزءًا من جسده.
الرسول بولس لم يفتخر بعدد الذين اعتمدوا على يديه، وهم كثيرون، بل يذكّر قارئيه بأنّ الأمر الوحيد الذي يدعوه إلى التفاخر ليس سوى “صليب ربّنا يسوع المسيح”. أمّا المقصود بالصليب لدى بولس فليس ذاك المصنوع من الذهب أو الفضّة أو الخشب… بل المعاني السامية التي يرمز إليها الصليب وعلى رأسها المحبّة والشهادة والتضحية وبذل الذات والعطاء اللامحدود…
يختم بولس كلامه عن الصليب بإشارة بليغة إلى كونه هو نفسه يحمل في جسده “سمات الربّ يسوع”. هو يريد عبر إشارته هذه إعادة التذكير بقول الربّ يسوع: “مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مرقس 8، 34). لا يمكن أحدًا لا يكفر بنفسه، أو لا ينكر ذاته، أن يكون تلميذًا ليسوع. شرط الكلام باسم يسوع أن يتجرّد الإنسان عن ذاته وعن أناه القاتلة. التلميذ الحقيقيّ ليسوع هو ذاك الذي صلب نفسه من أجل العالم، لا ذاك الذي يريد صلب العالم من أجل إرضاء نفسه وشهواته.
كثيرون هم، رجال دين ورجال سياسة، مَن يدّعون التحدّث باسم المسيحيّين. كثيرون هم مَن يريدون الافتخار بأعداد المسيحيّين، لا الافتخار بالمسيحيّة. وشتّان ما بين الأمرين، فمَن يفتخرون بأعداد المسيحيّين لا تعنيهم قداسة المسيحيّين ولا فساد أخلاقهم، فيما الافتخار بالمسيحيّة افتخار بالقدّيسين الأحياء الذين ما زالوا يجاهدون على هذه الأرض ضدّ الخطيئة والجشع والفساد.
هؤلاء القدّيسون الأحياء لا يعنيهم ما يقوله القادة الدينيّون ولا القادة السياسيّون، ولا يعنيهم المطالبة بـ”حقوق المسيحيّين” وحصصهم من الفساد والصفقات والتعيينات… ذلك أنّهم أدركوا أنّ حجم المسيحيّين الحقيقيّ لا تحدّده أوزان أجسادهم من لحم ودم وعظام، بل المحبّة التي يحملونها في قلوبهم تجاه إخوتهم في الإيمان وفي المواطنة وفي الإنسانيّة. المسيحيّون الحقّ لا يقدر أحد أن يزعم التحدّث باسمهم. الحقّ وحده ينطق باسمهم.
كلّ ما يعني هؤلاء القدّيسين أنّهم حملوا الصليب، وأحبّوا إلى الغاية، وينتظرون بشوق الشهادة الحقّ. وأمّا سوى ذلك فباطل.
ليبانون فايلز