ليست السنة الأولى التي يسجّل فيها هجوم ملحوظ للتلامذة من التعليم الخاص إلى التعليم الرسمي. هل السبب فقط الوضع الاقتصادي والأقساط المرتفعة للمدارس الخاصة أم أن المدرسة الرسمية تستعيد شيئاً من الثقة؟
فاتن الحاج
هنا أمام غرفة المجلس التحكيمي التربوي في جبل لبنان، لا شيء يساوي دموع الأمهات وحرقتهن على تأمين مقعد دراسي لفلذات أكبادهن بأي ثمن وبأية وسيلة كانت. فالمكان الذي يفصل في النزاعات المالية بين إدارات المدارس الخاصة وأهالي التلامذة يحتضن حكايات مواطنين ينشدون «التعليم الجيّد» لأبنائهم، متحدّين وضعهم المعيشي والاقتصادي، ظناً منهم بأن مطلق مدرسة خاصة ستكون الملاذ الوحيد الذي يحقق هذا «الطموح».
لا يتأخر هؤلاء في معرفة أن المدرسة التي اختاروها لتعليم أبنائهم تلفظهم حين يقصرون بسداد أقساطها أو أنها، في أغلب الأحيان، تمهلهم فتحجزهم لديها لتتراكم ديونهم «بحجب» الإفادات المدرسية عنهم. يتردد الكثيرون في طرق باب المجلس خوفاً من «النزاع» مع المدرسة وتجنباً «للبهدلة والجرجرة إلى المحاكم»، كما يقول أحمد، أحد أولياء الأمور.
أما جورجيت فقد اختنقت بدموعها حين علمت أن المجلس لا يستطيع أن يستقبل شكواها ضد إدارة المدرسة لكون المبلغ المتبقي عليها هو 300 ألف ليرة فقط، ومع ذلك لا تقوى على سدادها، فيما الدعاوى ترفع إذا كان المبلغ مليون ليرة كحد أدنى. تروي كيف أن مدرسة أولادها لم تفك حجز بطاقة ابنها للترشيح للامتحانات الرسمية إلّا بعد دفع مليون ليرة، واليوم «تحجز» الإفادة المدرسية التي تحتاج إليها للذهاب إلى المدرسة الرسمية في انتظار دفع الـ300 ألف.
الديون المتراكمة للمدارس قد تصل إلى 20 مليون ليرة للأسرة الواحدة، هذا ما تقوله رئيسة المنطقة التربوية في جبل لبنان فيرا زيتوني، مفوض الحكومة في المجلس التحكيمي، التي تؤكد أن «هدفنا الأول هو أن لا نترك التلميذ من دون مقعد بغض النظر عن أي نزاع، بناءً على إفادة تصدر من المنطقة التربوية والمجلس التحكيمي شرط أن يكون وضع التلميذ مبرراً لجهة التسلسل الدراسي، ومن ثم ننتقل بعدها إلى حل النزاع وإعادة الحقوق إلى المدرسة».
حجم هذه الفئة من الناس يتعاظم بصورة كبيرة سنة بعد أخرى بفعل الأزمة الاقتصادية والازدياد المضطرد للأقساط المدرسية، لدرجة أنك قد تشهد نحو 100 شخص في يوم واحد يقفون على باب المجلس التحكيمي لأخذ الإفادة ونقل أولادهم إلى المدرسة الرسمية.
الهجمة على التعليم الرسمي ملحوظة، كما تقول زيتوني، فقد سجّلت إحدى المدارس الرسمية هذا العام 830 تلميذاً، والسبب، برأيها، ليس الوضع الاقتصادي فحسب، إنما تحسين الوصول إلى التعليم وإعادة تأهيل المدارس الرسمية وتغطية رسوم التسجيل ودعم تعزيز جودة التعليم.
في نظر المنظمات الدولية الشريكة لوزارة التربية في دعم تعليم اللبنانيين واللاجئين الملتحقين بالمدارس الرسمية، فإنّ ظاهرة «الهروب» هذه، بدأت تظهر بوضوح قبل نحو 3 سنوات وتحديداً منذ بدء تطبيق خطة RACE الممولة من الجهات الدولية المانحة لتعليم اللاجئين واللبنانيين على السواء. ويقول المسؤول الإعلامي في منظمة اليونيسيف، سلام عبد المنعم، إن نحو 15% من التلامذة المسجلين في المدارس الرسمية، العام الماضي، أتوا من المدارس الخاصة.
وقد احتضنت المدارس الرسمية، العام الماضي، 260 ألف متعلم لبناني و195 ألف متعلم نازح من عمر 3 سنوات إلى 18 سنة. أما التطلعات للعام الدراسي الجديد فإنها تتمحور، بحسب وزير التربية مروان حمادة، حول التخطيط لاستقبال 265 ألف متعلم لبناني، و220 ألف متعلم نازح. هذا ما أكده الوزير خلال إطلاق حملة العودة إلى المدرسة، مشيراً إلى أنّ الأفضلية في المدارس الرسمية هي للتلامذة اللبنانيين، لذا فإنّ تسجيلهم قبل نحو أسبوعين من تسجيل النازحين، وأنّ الأوضاع الاقتصادية وإقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب وما يمكن أن يرتبه من أعباء على الأهالي سوف يجعل العديد من التلامذة يتوجهون إلى المدارس الرسمية وهي جاهزة لاستقبالهم، على حد تعبير حمادة.
لكن إذا كان شعار «مقعد لكل تلميذ» الذي تتبنّاه وزارة التربية في استراتيجيتها العامة، يحظى باهتمام المجتمعين المحلي والدولي لكون «الشعار» يستند إلى حق دستوري وإنساني لكل طفل ألا وهو حق التعلّم، فالسؤال الأهم هو: ما هي نوعية التعليم التي يتلقاها هذا التلميذ على هذا المقعد وكيف يمكن إعادة الثقة بهذا القطاع؟
وزارة التربية، على الأقل، تراهن على تسجيل اللبنانيين لأبنائهم في الروضات الرسمية. يؤكد حمادة أنّه «جرى تأهيل هذه المرحلة في معظم المدارس وتم تجهيزها، بدعم دولي، وقد ألحقت بها معلمات جرى تدريبهن بحسب روحية المناهج واستخدام التجهيزات ومراعاة الأوضاع النفسية للأطفال.هذا الواقع لم يكن قائماً قبل 10 سنوات، حيث لم تكن 45.4% من المدارس الرسمية تضم صفوف حضانة. كذلك، تمّت هذا العام إعادة تأهيل 147 مدرسة رسمية، بدعم دولي أيضاً وضمن خطة RACE لتعليم اللبنانيين واللاجئين.
إلى ذلك، يتحدث سلام عبد المنعم (اليونيسيف) عن دعم المنظمة للوزارة في التخطيط لبرامج التعليم وتعزيز جودته عبر تدريب أكثر من 5 آلاف معلم على منهجية تدريس تركز على الطفل، دعم الوزارة في رصد جودة التعليم داخل الصف، اختبار مدارس رسمية شاملة حيث يتعلم جنباً إلى جنب الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة أو الذين يعانون من صعوبات في التعلم والأطفال الآخرون، زيادة وعي الأسر حول أهمية التعليم وإعلامها عن السبل التعليمية لا سيما التعليم غير النظامي الذي بات يضم 75 ألف تلميذ.
في المقابل، تشير أرقام وزارة التربية إلى أنّ أكثر من 40% من تلامذة المدارس الرسمية هم من النازحين السوريين الذين يدرسون في أكثر من 300 مدرسة بدوام بعد الظهر، في حين أنّ هناك، بحسب منظمة اليونيسيف، 80 ألف طفل لاجئ سوري مسجل في المفوضية العليا للاجئين، تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات و14 سنة، أي في مرحلة التعليم الإلزامية، غير ملتحقين بالمدارس الرسمية اللبنانية.
المشكلة تصبح أكثر تعقيداً، كما يقول عبد المنعم، بالنسبة إلى الأطفال السوريين فوق سن الـ 15، إذ إنّ هناك نحو 75 ألف طفل سوري لا يحصلون على أي تعليم رسمي أو تدريب معتمد.
اللافت ما يشير إليه عبد المنعم لجهة تحدي بقاء النازحين في المدارس وعدم تعرضهم لخطر التسرب المدرسي، فالعدد الذي يتسجل ليس هو نفسه الذي يستمر في التعليم، فالتسرب قد يحصل بعد شهرين من بداية العام الدراسي لأسباب شتى منها صعوبة المنهج التعليمي، اللغة، دوام بعد الظهر.
ليس هناك وضوح أو أرقام حول هذا التسرب، يقول ميلاد أبو جودة، مستشار التعليم في جمعية إنقاذ الطفولة (save the children)، مشيراً إلى أن سبل المرافقة والمساندة ووسائل المتابعة ليست كافية ليستمر الطفل في التعليم. اللافت أنّ السؤال الأول الذي تطرحه الأسر السورية عليهم كجمعية حقوقية تعنى بالمساعدة لتوفير التعليم لكل طفل: «هل هناك أماكن قبل الظهر؟». من هنا، يؤكد أبو جودة أهمية إعداد دراسة جدوى لمعرفة مدى إمكانية خلق صفوف أكثر في الدوام الصباحي والتخفيف من الهدر والأعباء والتكاليف. أما التحدي فهو الوصول مع الجمعيات والبلديات إلى أكبر عدد ممكن من الأطفال، وهذا يكون بتصميم برامج محو أمية لا سيما للمنقطعين عن الدراسة منذ أكثر من 5 سنوات.
تراجع التمويل والوعود التي أعطاها المجتمع الدولي للدولة اللبنانية يبقى العقبة الأكبر أمام الالتزام بتعليم النازحين، إذ واجهت المبادرة في العام الماضي عجزاً يبلغ 9.8 مليون دولار، ويتوقع أن يتراوح هذا العجز في العام المقبل بين 25 و35 مليون دولار أميركي.
فاتن الحاج
الأخبار