يصعب تخيّل شارع الحمرا العريق من دون أكشاك بيع الصحف والمجلات التي تخفي بين سطور قصّتها المحفورة في التاريخ، أسرار روّاد الشارع وصخبهم و”نزواتهم” العابرة، وعشقهم للقراءة ولاحتضان الصحف بين أياديهم.
وكم هو مُمتع أن تستمع إلى نوادر وحكايات أصحاب الأكشاك الذين عرفوا “أيام العز” التي عاشها الشارع.
و”الجلسة” معهم قد تمتد طويلا، إذ لا مانع لديهم من إختلاس النظر إلى بعض صفحات من كتاب الماضي البعيد. وهم يعتبرونها فرصة “ليتذوقوا” مُجدّداً “طعم” الحياة الجميلة التي كانوا أبطالها ذات يوم، لاسيما وانهم يشعرون اليوم بأنهم يضطلعون بأدوار “ثانوية” في “قصّة” الشارع الحاليّة، من جهّة. وفي يوميّات القارئ الذي إستعاض عن الورق بالألواح الالكترونيّة، من جهّة أخرى.
وما أن “يستيقظ” الشارع صباح كل يوم، يظهر أصحاب الأكشاك الذين ينهمكون في “تعليق مشهيّاتهم الأدبيّة” في الواجهة وأيضاً في فُسحات صغيرة قائمة إلى جانب الأكشاك. ولا يملّون هذه الطقوس اليوميّة التي يُمارسها بعضهم منذ سنوات، بل يتعاملون معها وكأنها من العناصر المحوريّة في نهارهم.
صيفاً، شتاءً، خريفاً، ربيعاً، يصلون إلى الحمراء عند السادسة والنصف صباحاً ويُحوّلون المساحة التي “تستضيف” أكشاكهم، منزلهم، ولم لا ملاذهم، الذي يعتبرونه أكثر من موقت. وبما انهم يعملون في الشارع منذ زمن، تربطهم مع روّاد الحمرا، “العتاق”، معرفة قديمة تُجاور أحياناً الصداقة. وأمست مسألة طبيعيّة، لا بل من العناصر الأساسية في حياتهم أن “يُمزمزوا” فنجان قهوة مع زبون أو آخر يقصدهم منذ سنوات لـ”يبدأ نهاره” مع هذه الصحيفة أو تلك.
وفي حين إنحسر عددها في حاضرنا، بيد ان هذه الأكشاك التي تحتوي مقاطع كُبرى من “مُذكرات” الشارع، ما زالت تُحافظ على حضورها بالرغم من كل التحديّات التي واجهتها ماضياً وما زالت تواجهها اليوم. ويعتبرها كُثر الإرث الثقافي المحوري في شارع بنى شخصيّته على التناقضات و”تغذّى” منها.
المحطة الأولى في هذه “الصبحيّة”، لا بدّ من أن تكون مع نعيم صالح الذي يستقبلنا في واجهة مبنى “سينما الحمرا”، حيث يتناول “ترويقته” مع “فنجان شاي”، فيما يروي بعض فصول من قصّته مع الصحف والمجلات. هو في هذه المصلحة منذ العام 1964، “كان عمري شي 8 سنين، وبدأت العمل مع والدي وأنا في المدرسة. وجرت العادة أن أوزّع معه الصحف والمجلات قبل الذهاب إلى الصف. تعوّدنا على هالمصلحة هيدي!”.
يُعلّق، “الحمرا في الستينات والسبعينات مُختلفة عمّا آلت إليه اليوم. الجميع مُتعطّش آنذاك للحدث والخبر. يعني ما كنّا نعرف التكنولوجيا”. الزبائن اليوم، هم على قوله، “الختياريّة! فهم لا يزالوا يحتفظون بتفكيرهم القديم ونمط حياتهم السابقة. أولادي على سبيل المثال تخرّجوا من الجامعات ومع ذلك لم أشاهدهم مرّة في حياتي وفي يدهم جريدة! وغالباً ما يسألني إبني: من وين عرفت هالخبرية؟ أضحك وأجيب: منذ الصغر أتابع كل ما يجري في العالم من خلال الصحف والمجلات التي أبيعها. أتابع يوميّاً وأنا قارئ جيد”.
العمل في هذه المصلحة أعطاه الكثير، “شو هالحكي! أكيد قدّم لي الكثير. بحر من المعلومات. هذه المصلحة تأخذك إلى عالم آخر. كل الكون بين يديك خلال دقائق معدودة”. يُعلّق قائلاً، “جريدة “النهار” مدرسة كبيرة وكان لها دورها المحوري في تقديم الخبر إلى كل بيت”.
وإلى جانب الصحف والمجلات الحديثة التي يبيعها صالح في كشكه الذي يمتد إلى واجهة المبنى القديم، يعرض الكتب العتيقة على أنواعها، والأهم انه يبيع مجلات الرسوم المصوّرة “لولو وطبوش” و”سوبرمان” التي ما زالت عالقة في ذكريات الآلاف الذين عاشوها طقسا يومياً. ويروي صالح، “قرأت كل أعداد لولو وطبوش وسوبرمان. جرت العادة ماضياً أن ننتظرها في المطبعة لنقرأها ما أن تصدر –(طازة-)”. وفي حين كان ثمن المجلّد الواحد 5 ليرات، “اليوم يُمكن أن أبيعه ب40 $ أو 50 $، والله الكل يشتريها! ثمة أمّهات ترعرعن على هذه المجلات يقصدونني كي يشتروا لأولادهم هذه المجلات المصوّرة أو المجلّدات ولا مانع لديهم بأن يدفعوا الكثير كي يترعرع أولادهم بدورهم عليها!”.
ماضياً، “كنتُ أبسط المجلات والصحف مُقابل الـ”ريد شو” خلال ساعات الليل الطويلة. وفي الفترة الممتدة من 1973 وحتى 1993، كنتُ أبيع الصحف والمجلات من الساعة السابعة مساء وحتى الواحدة من بعد منتصف الليل. بعزّ دين القصف أو الشتي والعواصف. وكان روّاد المقاهي ودور السينما يشترون ما طاب لهم منها ما أن تنتهي السهرة”. أمّا “أهل السياسة”، فكانوا يُعاملون أصحاب الأكشاك بإحترام مُطلق، ويتناولون معهم القهوة ويعرفونهم بالأسماء. “الأستاذ جبران تويني كان من المُساهمين في تزويدنا الترخيص كي نبقى تحت سقف القانون. كنا نزوره باستمرار ونعرض عليه مشكلاتنا. وكنّا نخرج من مكاتب النهار بعد زيارته هيك مفتخرين بحالنا!”.
وفي الكشك الذي يملكه أبو جميل حمود، “نقيب أصحاب الأكشاك سابقاً”، يؤكّد لنا من يعمل فيه، “وقت عملوا الانترنت، تراجع الشغل لورا”. أمّا محمود حسين أبو الحسن، صاحب الكشك القائم في شارع القاهرة (ويُعرف أيضاً بشارع مفرق الجامعة)، فيؤكّد، “يالّلي متعوّد على الجريدة اليوميّة كنوع من الثقافة بحياتو، فبعدو بيشتريا. بعضهم يقرأ الصحف صباح كل يوم، قبل الأكل والشرب. واليوم يزورني العديد من الطلاب بحثاً عن مجلة أو أخرى. وربما جذبهم مانشيت صحيفة أو أخرى أيضاً”. العمل في كشك بيع الصحف والمجلات، “نمط حياتي. قدري هيك عيش!”.
حسّان دكروب ورث “المصلحة من الوالد. كنت صغيراً، وما أن أقفلت المدرسة أبوابها خلال الحرب دخلت المصلحة. أعتبرها من الأمراض النفسيّة! وصلتُ في مرحلة من حياتي إلى حدّ اليأس منها. وعندما توقفت عن العمل ذات يوم- ضاينت 3 أيام فقط! وعدتُ إليها هاتفاً: هي مرض نفسي ما منخلص منّو!”. يرى ان “الكبار”، في السن وحدهم يقرأون الصحف اليوم. وإذا لم نجد من يدعمنا قريباً لنستمرّ لا أستبعد أن أشتري سيّارة عموميّة وإشتغل عالخطّ. والدي قبل الحرب إشترى الأراضي والبيوت بفضل الكشك. وأذكر ان “الحوادث” كانت تصدر مساء كل أربعاء، وكان يبيع في الليلة ذاتها 1200 نسخة! وكان يفتح الكشك من الساعة التاسعة مساءً حتى الاولى بعد منتصف الليل. اليوم ما أن تُصبح الساعة الثانية من بعد الظهر حتى يدبّ اليأس وأقفل الكشك!”.
هنادي الديري / النهار