في ظلّ الفراغ الرئاسي الذي بات يهدّد الكيان الماروني في لبنان، يتخوّف البعض من نزاعٍ قد يطاول جميع المكوّنات، بمَن فيهم الموارنة. لكنّ الأباتي بولس نعمان لا يزال يؤمن باستمرارية بلد يعيش في شرق مضطرب، ببلد سينهض من النزاع الحائم حوله بفضل طوائفه ومحيطه.
“حقيقة أؤمن بها إيماناً ثابتاً وأريدها أن تتحقق، وهي أن لبنان لن يزول، ولكن أيضاً لن يتطوّر وحده بمعزل عن محيطه”. بهذه الفكرة يختصر الأباتي بولس نعمان كتابه “لبنان الموارنة إلى أين؟” الذي هو عبارة عن مقالات مختلفة كتبها تباعاً لتُظهر تطوّر الأحداث في لبنان.
يسلّط هذا الكتاب الضوء على دور الموارنة القدامى في بناء لبنان الحرّية والعيش الكريم، ويذكّرهم بأنّ استمرارية هذا الوطن، في ظلّ النزاع الإقليمي الحالي، لا تتحقق إلّا بالتعاون.
يبدأ نعمان الكتاب بمقالات نشرها على شكل دراسات وتحاليل تبيّن تطوّر لبنان عبر التاريخ وتبرز المحطات الأهمّ التي أوصلته إلى الاستقلال. فتطوّر لبنان بدأ تحت قيادة موحدة للموارنة، سمحت لهم ببناء مجتمع قوي سهّل لهم التنقّل داخل لبنان على مراحل.
ويشدّد الأباتي على دور البطاركة في تكوين هوية المهاجرين “فبفضل قيادة مجرّدة واعية، كَوّنوا لهم حضوراً إنسانياً مفيداً وفاعلاً، استأنس به قادة المحيط القريب، من أمراء وحُكّام مقاطعات، واستهوى أيضاً الغزاة والطامحين إلى التوسع، من المماليك وغيرهم”.
إنّ بناء هذا المجتمع اللبناني أساسه التعاون بين الموارنة المهاجرين داخل لبنان والأمراء والحكام. فعندما استقرّ الموارنة، مدّوا أيديهم إلى الحكام الذين أشركوهم في الحكم لطموحهم في العمل المنظّم ولرغبتهم في الانفتاح على القوى الخارجية.
فبدأوا العمل على التخلّص من الاحتلال العثماني “فقَدَرُ الموارنة أن يكونوا شهوداً للحرية في هذا الشرق، وقَدَرُ أسياد يانوح وقنّوبين والديمان، وما بينها من مغاور، أن يحملوا هموم الحرية وهموم الموارنة، وما أكثرها وما أثقلها في هذا الشرق الحبيب”!
فبسَعيهم إلى الحرية حقّق الموارنة حضوراً فاعلاً ووضعوا أهداف تعهّدوا تحقيقها وهي: بناء أسس الوطن، الاستمرار في نضالهم والتطوّر الدائم نحو الحضارة العالمية. واستطاعوا تحقيق أهدافهم عبر نجاحهم في إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920. وما زال هذا النضال مستمراً حتى اليوم.
ولكن مع تحرّر لبنان من السيطرة السورية سنة 2005، أصبح واضحاً أنّ اللبنانيين غير قادرين على التضامن من أجل انتخاب رئيس أو تشكيل حكومة أو إقرار قانون ما لم يتدخّل وسيط خارجي. هنا يتساءل المخلصون للقضيّة اللبنانية، هل أخمدت الشعلة في نفوس اللبنانيين؟
هل تضاءلت حيوية القادة وعزيمتهم؟ هل فقدوا روح المارونية المناضلة؟ هل فقد الشعب أيضاً الإحساس بأنه يمثّل المسيح والقيم المسيحية في هذه المنطقة، حتى بدأ يفكّر بالهجرة وبالمصالح الشخصية الخاصة؟
الأباتي نعمان يجيب عن هذه الأسئلة بنداءٍ إلى المسيحيين، قائلاً: “عليهم الاستفاقة اليوم والمساعدة في نشوء نخبة تقود بتجرّد ووفق وَعيهم الروحي والتاريخي، فإن لم يستفيقوا سيزولون حتماً وتحلّ محلّهم شعوبٌ أخرى تُكمل مسيرة المسيحية والتاريخ في هذا الشرق. إن هذه الحقيقة، وإن شكّلت إنذاراً، هي لِلْبُنيان لا للهدم، وها هي الشعوب الشرقية بدأت تنتفض، ولا بُدَّ أن تلاقي الخط الصحيح والباني للمفهوم الإنساني”.
أراد نعمان، في كتابه “لبنان الموارنة إلى أين؟”، إنعاش الذاكرة والتذكير ببعض ما عاناه، متسائلاً عن صحة الأسس التي بُني عليها لبنان، لا لِنَقْضِها بل لِوَأدها مجدّداً، بعدما أفسدها الإنسان السياسي وجعلها تبان غير صالحة. كذلك، دعوتُ إلى تشكيل نخبة جديدة من القادة والمفكرين، قادرة ومجرّدة، تدرس بالعمق وضع لبنان في أسسه القديمة، في مقابل التطورات الجديدة الفكرية والإجتماعية في ضوء أزمات المنطقة.
وختاماً، طرحَ سؤالاً يطرحه اللبنانيون عندما يرون الأزمات تتوالى والأعاصير تعصف من كل حدب وصوب، ألا وهو: “هل انقضى عهد الكبار الذين صنعوا الاستقلال وضَحّوا بذواتهم؟”