النكاشة، عند الاب سهيل قاشا، تعني تقليب التاريخ تقليبا، التنقيب فيه من الفجر الى النجر. “نعم، الله كلّم الشعوب بطرق شتى”، من اول الطريق، وعنده البراهين، باقدم اللغات. “والله لا يزال يكلّمهم حتى اليوم”، يقول استاذ مادة الاسلاميات والباحث في التراث العربي المسيحي. قرب سريره، تلال كتب ارتفعت حتى السقف. انهم رفاق الغرفة، جزء يسير من مجموعة كبيرة من الكتب جمعها على مر الاعوام، ولعه الدائم. هذا المؤرخ العراقي، الذي صار لبنان بيته، يلاحق الله، عبر العصور، كظله، ويدوّن استكشافاته الإلهية على اوراق، صارت آلافا… عشرات الكتب.
السؤال يثير الفضول: هل الدين من اختراع الانسان، ام هو من تنزيل الله؟ يجيب قاشا: “الانسان الاوّل، في الفترات الاولى من البشرية، كانت تحوطه الغاز واسئلة وطلاسم كثيرة، لم يكن يعرف ان يعطيها تفسيراً، فتوجه نحو ما هو اعظم منه، ولا يستطيع الوصول اليه. وتعمقت الفكرة هذه الى ان يتأمن ما يراه من قرب وما يراه من بعد، فاخذ مثالا على ذلك تلك البذرة التي تقع في الارض، ثم تنمو وتصبح شجرة وتعطيه ثمرا وتكبر. أسماها بلغته الاولى: “ايل آنا”، التي بعده اعطته معنى بالآرامية القديمة، وحتى بالأكادية والسومرية: “الشجرة”، والتي تعني: “انا الإله”.
اذًا، عرف الانسان معنى كلمة الإله، “وهذا الإله، بما انه مجهول لديه، اصبح قوّة. وهذه القوة تتمثل في الطاقة الموجودة في الطبيعة. واصبحت هذه الطاقة كأنها آلهة. فالشمس إله، والقمر إله، والسماء إله، والحيوانات آلهة. كل شيء لم يستطع ان يفسره وخاف منه، جعله إلها. من هنا اكتشف الانسان، في تفكيره، الألوهية. لم يتأله هو، بل ألّه غيره. وهذا التفكير الاوّلي نشأ في منطقة سومر جنوب العراق، بدليل ان كل علماء الآثار يقولون ان التاريخ يبدأ في سومر. وهكذا نشأت فكرة الألوهة عند الانسان. لا اقول انه اخترع الدين، بل اكتشف قوة الله. وبدأ هذا المفهوم يتطوّر، الى ان وصل في عقل الانسان الى وجوب ان يكون هناك إله واحد يسيطر على كل الآلهة، وظهر من نسميه “البانثيون” السومري، اي ثلاثة آلهة وعليها إله واحد”.
بعد اكتشاف الإله، ظهرت فكرة الدين، يشرح قاشا: “بانت هذه الفكرة بعدما بدأ الانسان يحاسب نفسه. كلمة الدين هي كلمة محاسبة. دانه اي حاسبه، حاكمه. الدين هو محاسبة النفس. وهنا نقول كالرسول بولس: “وخاطب الله الناس بطرق شتى”. ونسمي ذلك الوحي، او المعرفة. وهذا الوحي سميناه الدين. اذًا الدين من اكتشاف الانسان مع تدخل من الله”.
اعوام من النبش في تاريخ البشرية والتأريخ في الاديان قادت قاشا الى اقتناع لا غيره: “الدين هو واحد، هو الله الواحد الاحد الذي كلَه محبة وخير”. كيف نعرف اي اله هو الحقيقي، “عندما نلتمس منه العدل والخير. ليس ممكنا اطلاقا ان يظهر عن الله اي شر، لانه محبة. لماذا خلقنا؟ وهل يحتاج الينا؟ خلقنا كي نعرفه. وبعدما نعرفه، نحبه، ومن ثم نعبده، ونرث ملكوته”.
الامر محسوم لديه… ويثور على الفكرة القائلة ان لله شعبا مختارا. “لا، الله لم يختر شعبا. والقول بذلك تلفيق عليه”. ويتدارك: “قول اليهود انهم شعب الله المختار دافعه عنصرية قاتلة وقوية. هم يقولون ذلك. ولكن هل ثمة برهان؟ على سبيل المثال، ابرام كلمة اكادية سومرية قديمة، وتعني المرتفع العالي. وقد جعلها اليهود ابراهيم، باضافة الـ”هـ” اليها. وحرف “هـ” في العبرية يعني: “لنا”. بما يعني ان ابرام صار لنا”.
في العراق، الارض المسكونة بالألوهة، يستغرق قاشا في رحلاته. “فكرة الخلاص موجودة عند العراقيين من زمان بعيد، وقد كتبت في تحولاتها. هذه الفكرة موجودة بالمسمارية… حتى ان احد آلهة الحضارة البابلية، مردوخ، نزل من السماء ليخلص الانسان. والانسان ما قبله، بل اضطهده وسجنه، وسجن معه اثنين: الاول مجرم، والآخر بريء. ثم جلده ومات. وبعد ثلاثة ايام، قام مردوخ وصعد الى السماء. انها فكرة الخلاص نفسها الموجودة عند المسيحيين”.
بيقين واحد: “الله كلّم الشعوب بطرق شتى”، يفسر قاشا هذا التقارب اللافت في فكرة الخلاص عند البابليين والمسيحيين. “وفي الاخير، كلّم الناس بابنه، بالمسيح. لقد اراد ان يتكلم مع البشر، جميعهم، لانه خلقهم واحبهم واراد خلاصهم. الله خلق الانسان من فيض محبته. ولما اخطأ هذا الانسان وتكبر وتجبر وكثرت الخطايا، اراد ان يخلصه وينقذ حياته، فجاء. لكن خاصته لم تقبله، كما يقول الانجيل”.
كل الحواس يشغّلها المؤرخ في رصده آلاف القرون الماضية، وفي قراءة الزمن الحالي. “نعم، لا يزال الله يكلم الناس اليوم. وما يقوله لهم: اصبروا، وبصبركم تقتنوا نفوسكم”. وتقوده الافكار الى امر مؤكد: “مشروع الله الخلاصي لم ينته، بل يتواصل… ما دام الانسان يفتش ويفكر. الحرية هي النقطة الجوهرية للعلاقة بين الله والانسان. البشر احرار في تفكيرهم، وحرية الله لا تحد ولا توقف، تماما كما حرية الانسان”.
هالة حمصي / النهار