مع كلّ شروق شمس تزداد النزعة الشموليّة لدى أهل الأديان والممسكين بزمام الأمور فيها. وفيما يتّجه العالم إلى تأكيد أهمّيّة “الفرد” وفرادته، من حيث هو مختلف، تتقهقر المجتمعات الدينيّة، ولا سيّما في مشرقنا العزيز، إلى مزيد من الانعزال والتقوقع، والارتداد إلى فردوس متخيَّل قوامه بعض التطبيقات الشرعيّة الخارجيّة التي لا مسوّغ فكريّ أو عقليّ يبرّرها.
“الفرد” الإنسانيّ كقيمة في حدّ ذاتها لا وجود له في مجتمعاتنا الشموليّة، فمجد الجماعة يقوم على حساب إلغاء الفرد من كلّ معادلة. وبالقدر الذي يتم فيه تدجين، حتّى لا نقول غسل دماغ منظّمًا، أكبر عدد ممكن من جماعة ما، يزداد مجد الجماعة وقدرتها على مواجهة الجماعات الأخرى. لذلك تُمنع منعًا قاطعًا، بالحسنى أحيانًا وبالعنف أحيانًا، مخالفة أيّ فرد لأحكام سلطان جماعته “الشرعيّة”.
فلا عجب إذن أن ينتعش في الجماعات التلصّص على سلوكات الأفراد. والأدهى أن تمنح نفسَها بعض الأحزاب المذهبيّة صلاحيّات فائقة تقمع عبرها الحرّيّات الفرديّة التي ضمنتها، نظريًّا على الأقلّ، الأديان كافّة. فيتمّ نسف مضمون الآية الكريمة “لا إكراه في الدين”، لحساب تشريف فئة من الفئات على حساب الحرّيّة الفرديّة لعامّة الناس. وعلى عكس الاعتقاد السائد في هذا الشرق، فإنّ الحرّيّة الدينيّة مصونة لمن يرغب في الاندراج الإيمانيّ في أيّ جماعة من الجماعات. أمّا حرّيّة الخروج من الجماعة أو من بعض قيودها فهي المعدومة.
ثمّ مَن قال إنّ القائمين على المؤسّسات الدينيّة التلصّصيّة هم أعمق إيمانًا أو أكثر عفّة أو أفضل أخلاقًا من الذين يُمارس عليهم التلصّص؟ يضعون أنفسهم فوق الشبهات، هم الصالحون والأبرار، وسواهم في حاجة إلى ترويض وتأديب وإعادة تأهيل. باتت “الموعظة الحسنة” في ذمّة التاريخ إذ نسخها المدعوون إلى ممارستها بممارساتهم التعسّفيّة الفوقيّة في حقّ مَن يريد الاختلاف عنهم. احتلّوا موقع الله، سبحانه له الملك، ليحكموا على الناس منذ اليوم غير منتظرين يوم الدين، حيث ربّما سيفاجأون بالدار الذي سوف يُرسلون إليه.
إنّ هذا هو الاستكبار بعينه أن تفترض مجموعة من الناس أنّها مخوّلة إصدار الأحكام على أحدهم بأنّه مستحقّ العقاب لمجرّد سلوك فرديّ لا يؤذي فيه أحدًا من سائر بني البشر. ما شأن هؤلاء بمَن صام ومَن لا يصوم، أو بمَن صلّى ومَن لا يصلّي؟ أو بمَ يلبس زيد أو عمرو أو أم زيد أو أمّ عمرو؟ ما شأنهم إن رقصوا أو طُربوا في الأعراس والمناسبات الخاصّة؟ ما شأنهم بمَن يعاقر الخمر أو بمَن يبيعه؟
لقد أضحينا كلّنا “أهل ذمّة”! مسلمون وغير مسلمين. الطوائف خلعت عن أبنائها صفة المواطنين، وفضّلت أن تخلع عليهم صفة الرعايا، فأصبحوا في ذمّتها، أي خاضعين لها وللقائمين عليها. كلّنا “أهل ذمّة”! ففي كلّ طائفة زعيم أوحد هو القائم بأمره والحاكم بأمره والمطاع أمره، وكلّ طائفة من الطوائف باتت في ذمّة هذا الزعيم الطائفيّ أو ذاك يذهب بها حيث شاءت أو حيث لم تشأ.
بات المسلمون “أهل ذمّة” في بلادهم. أليس ذمّيًّا مَن يقبل بأن يحيا في ظلّ ملكيّة مطلقة غير دستوريّة، أو في ظلّ حكم عسكريّ، أو في ظلّ حكم الحزب الواحد؟ أليس ذمّيًّا المسلم الذي يرغب بمعارضة القائمين على الدولة الإسلاميّة، ولا يحقّ له ذلك لأنّ معارضة السلطان تُعتبر عصيانًا لمشيئة الله؟ أليس ذمّيًّا مَن يرضى أن يكون من رعايا “السلطان”، أيًّا كانت صفته، لا مواطنًا له حقّ محاسبة ماسكي زمام البلاد؟
التلصّص في مجتمعنا المتنوّع دليل ساطع على مبلغ الانحطاط الذي ما زلنا نوغل فيه إلى أغوار لا يمكن سبرها. كفى تلصّصًا، كي يحيا كلّ فرد من بلادنا فرادته. كفى تلصّصًا، كي نبدأ البحث عن فسحة نتنفّس عبرها. آن أوان حضورنا في هذا العصر.
الأب جورج مسوح
ليبانون فايلز