غاب الشاعر يوسف الخال في التاسع من آذار 1987 بعد صراع مرير مع السرطان. في التاسع من آذار 2017 هذا، يكون قد مضى على رحيله ثلاثون عاماً. مسافةٌ في الزمن كافية لبلورة الرأي وغربلته حول الشخص، والشاعر، والتجربة، والدور، والأثر، وفاعلية ذلك كلّه في المسرى الشعري العربيّ الحديث. كنتُ أحد الشعراء الفتيان الذين “التحقوا” متأخرين بـ”الخميس” الشعري الذي تحلّق حول الرجل، مفتوناً بفكرة الحداثة الشعرية، وبالحركة التغييرية التي عصفت بالشعر، وطاولت مفهومه، ولغته، وخبرة القصيدة، بل طاولت الفنون كلّها، بل الكينونة، والحياة بالذات، كلّها، وجميعها، فضلاً عن “المكان” البيروتي، باعتباره صار المختبر، وصار الرحم التي تحتضن اللقاءات والاختبارات، وكلّ ما يمكن أن ينجم عن التلاقح من ولادات غير مسبوقة.
لن أتطفّل في استذكار يوسف الخال. فأنا لن أتذكّر. ولن أدعو أحداً إلى التذكّر. يوسف الخال ليس محتاجاً إلى مسح الغبار عن الذكرى، لأنه، لسببٍ “موضوعيٍّ” جلل، تخطّى مطبّات الموت “العموميّ”، وما يترتّب عليه من إغفالٍ ونسيان، في بلدٍ كبلدنا لبنان، وفي منطقةٍ كمنطقتنا العربيّة. تَجاوَز يوسف الخال شخصه وشعره وتجربته الخاصة، فصار الشخصُ والشعر والتجربة جزءاً من قضيّة، وصار العلامة، وصار الرمز للمنعطفات والتحوّلات والثورات والتغييرات. أنا لا أجعل منه أيقونةً، ولا أسطورة. كلاّ. ليس هذا هو هدفي، ولا همّي. أقول فقط إن من الصعب جداً أن يُنظَر إليه كشخص، كشاعر، وكصاحب رأي، وتالياً أقول إن من الصعب جداً، حيال هذه المفارقة، أن يغرق في منطق الذكرى بعد غيابه، لأن المسألة لم تعد مسألة حياة وموت، بل مسألة كينونة، وانوجاد، وبحبوحة عقلٍ ولغة، وانذهال. هو صار في هذه الكينونة، بصرف النظر، سلباً أو إيجاباً، عن تجربته الشعريّة التي تستحقّ في ذاتها كلّ اهتمام، وكلّ دراسة.
يشرّفني أن أكتب ما أكتب، لا تكريماً ليوسف الخال، بل تكريماً للشعر في المطلق، للشعر العربي في حياتنا ووجودنا. أقول بحبرٍ مكثّف إن المسألة الشعريّة لم تعد مسألة “استعادة” لزمن الشعر وأهله وكتاباته، بل هي تندرج في مجرى النهر الشعريّ الذي لا يكفّ عن السيلان. أما الدور الذي اضطلع به هذا الرجل فأصبح في النسيج الطوعيّ لمعنى الشعر، ولشيوع هذا المعنى وانتشاره في كلّ شيء. لا أُطلق أحكام قيمة. هذا لا يعنيني. لكنّي لا أتردّد في القول إن تلك اللحظة التاريخيّة التي انخرط فيها الخال والجماعة الشعريّة التي تحلّقت حوله، إنما ستظلّ تكتسب أهميّتها من كونها تدبيراً رؤيويّاً مفتوحاً لتغيير جوهر النظرة إلى الوجود، والحياة، والتفكير، والتفاعل، والخلق الشعري والإبداعي. ألا يكفي على سبيل المثل أن يكون أثر ذلك التدبير في اللغة، في لغتنا العربيّة، أن هذه اللغة لم تعد هي اللغة فحسب، وأن الكتابة فيها لم تعد هي الكتابة، وأن الشعر لم يعد هو الشعر، لكي يكتشف المرء – الشاعر أن كلّ شيء في كينونته الأدبيّة والوجوديّة صار منذ ذلك الحين عرضةٌ للتكهرب والتحوّل والتغيّر، تحت العاصفة؟
أكتب بحبرٍ مكثّف، لا تحت وطأة الانفعال الوجدانيّ، ولا تحت أيّ وطأةٍ مماثلة، لأقول إن مسألة الحداثة والتقليد لم تعد تعنيني في شيء. “المعارك” أصبحت قضيّة معلوكة، وبائدة. لستُ مهتمّاً بأيّ معركةٍ من هذا القبيل. ربما ينبغي للشعراء والنقّاد والمعنيين بمسألة الأدب عموماً ألاّ تبهرهم بعد الآن أمورٌ عرضيّة كهذه. لقد أصبح الشعر في النسيج الطوعيّ للحياة، وأصبح الدور – فلينتبه الشعراء جيّداً – لا إنقاذ الشعر، بل معرفة كيفيّة جعل هذه الحياة تليق به. مهمّة الشاعر اليوم تغيّرت إلى حدّ كبير، لأنها صارت في نسيج الحياة، وليس فقط في نسيج القصيدة. شخصيّاً، لم تعد تعنيني حروب قصيدة النثر والقصيدة الكلاسيكية، ولا الحروب التي تنشب على الضفاف. تعنيني شعريّة الحياة، ويكفيني أني أعيش الشعر، وأعيش في الآن نفسه شعريّة الحياة، لأكون متورّطاً وممهوراً بهما حتى الحبر الأخير.
هذا كلّه، وأنا سأظلّ أكتب القصيدة، فكيف لا أقول ما أقول؟!
الآن، إذ أحلّل ظاهرة الحداثة، ومعها الظاهرة (الظاهرات) الشعريّة العربيّة المفتوحة على ما لا يُحَدّ من الأشكال والاحتمالات، رصداً وتفكيكاً وتأويلاً، أجدني مغموراً بالتداعيات الناجمة عن “صدمة الحياة” و”صدمة الكائن” و”صدمة المكان” و”صدمة اللغة”. ذلك كلّه صار هو الشعر. وفي الشعر. من الممتع حقاً، أقصد بالممتع، اللامعقول والمعقول في الآن نفسه، أن يعتقد شخصٌ مثلي بأن العالم صار هو الشعر، وفي الشعر، وبأن الشاعر هو جزءٌ مكوِّنٌ من هذه الكينونة، وبأن من المستحيل بعد الآن النظر إلى الشعر باعتباره قصيدة فحسب. لن أنفي كينونة الشاعر، ولا كينونة القصيدة. حاشا. لكن المسألة صارت تشبه وجود العقل، أو وجود الهواء نفسه، وانسرابه في كلّ شيء، وفي كلّ كائن، وفي كلّ مكان. كيف يُعقَل أن يعيش الشاعر اليوم، وأن تحيا قصيدته، خارج هذا التصوّر الكليانيّ للشعر؟ لا أعتقد أن هذا الاحتمال ممكنٌ، ولا أن الـ survie الشعريّة قابلة للصيرورة، إلاّ في غمرة ما تشهده فلسفة الحياة من تغييرات جذريّة، في المعنى وفي الأدوات. لأن الشعر، كونه جوهراً، قد صار منذ وقتٍ غير قليل، في كلّ جوهر، وفي مراياه، وفي تجلّياته. لن أكتفي بالسينما والرسم والنحت والتجهيز والموسيقى والرقص والتمثيل والتصوير الفوتوغرافي والفيديوي والنظرات واللمسات. سأستطرد بقوّة قائلاً إنه قد صار هو الأشياء والأرواح والأجساد كلّها.
هكذا، في قلب هذا الخضمّ، وفي مناسبة الاحتفال بمرور ثلاثين عاماً على غياب يوسف الخال، لا يعود من الضروري أن أرى إلى هذا الشاعر بذاته وبشعره فحسب، مفصولاً عن فهمي للعالم، وأشياء العالم، حيث لم يعد الشعر عمليّة كتابيّة فحسب، بل صار هو الحياة برمّتها، وهو الكائنات والأشياء والجمادات والمحسوسات واللامحسوسات، معيشةً ومحلومةً ومفكَّراً فيها، ومعبَّراً عنها باللغة، وبالأساليب والأدوات المضمرة والمعلومة.
في غمرة هذا الزعم اللامعقول، لا بدّ أن ينبري السؤال الجوهري الآتي، أطرحه أنا نفسي قبل أن يطرحه الآخرون: كيف يصبح الشعر هو العالم، وفي العالم، وقتَ يَتَوَحْشن هذا العالمُ الهمجيّ على ذاته، ويَتَكَلْبن، ليتحوّل إلى آلةٍ دموية، ما بعد حديثة، ممنهجة وعشوائيّة، للقتل والخراب؟ أيُعقَل أن يتساكن في الشعر، وأن يتعايش فيه العدوّ والصديق، الشعر واللاشعر، الخلاص والعدم، الحلم ومذبحة الحلم؟! أيُعقل أن ينبري شاعرٌ في خضمّ المآسي والكوارث والمقاتل الجماعيّة الراهنة، ليقول إن الشعر هو العالم، وفي العالم؟!
بعقلانيّةٍ مفرطة، وبشغفٍ أكول، أزعم أن الشعر لم يعد يكتفي بأن يتجلّى في قصيدة. صار كلّ شيء هو الشعر، وفي الشعر.
ما العلاقة بين هذه التداعيات والاحتفال بمرور ثلاثين عاماً على غياب يوسف الخال؟ إذا كنتُ أريد أن أركّز على نقطة محدّدة في هذه المناسبة، فهي هذه النقطة بالذات: الدور الذي اضطلع به يوسف الخال، بنظريّاته المستلهَمة من روح الحداثة الشعريّة الأميركيّة، وبشعره، وبمجلة “شعر” و”خميسها”، ساهم المساهمة الجوهريّة في ربط الشعر بالحداثة، وبما بعد الحداثة، بل ربطه بالحفلة المفتوحة على اللانهائي.
ثمّة بشاعةٌ مرعبة، ثمّة بغضاء، وثمّة أحقاد لا تطاق، في هذا العالم، ربّما أكثر بكثير ممّا فيه من جمال، وحبّ، وسلام. لكن الشعر، أيّها الناس، كسر الحدود، وألغى المواصفات، وفتح الأبواب، أبواب السجون، وصار هواءً كالهواء، وماءً كالماء، وضوءاً كالضوء، وظلاماً كالظلام، وخبزاً كالخبز. وهلمّ. وقد صار أيضاً هو الموت الذي في العالم، وهو الحياة.
من الآن، بعد الآن، أزعم أن هذا هو دور الشعر “الإضافيّ”. وقد كان ليوسف الخال، وللجماعة الشعريّة المتحلّقة، فضلٌ استثنائيٌّ وحقيقيّ في إطلاق النفير. وإذا ليس لسببٍ سوى هذا السبب، فإني في ذكراه الثلاثين أبتسم له، وأقبّله على الجبين، وأدعوه شخصيّاً لينضمّ إلى المائدة الراهنة، ضيفاً شرفاً، باعتباري واحداً من الذين “التحقوا” متأخّرين بكؤوس “الخميس”.
¶¶¶
ولد يوسف الخال في عمار الحصن، إحدى قرى وادي النصارى في سوريا، في الخامس من أيار 1916. عاش صباه في مدينة طرابلس، شمال لبنان. درس الفلسفة على يد شارل مالك (1906 – 1987) وتخرج بدرجة بكالوريوس علوم. أنشأ في بيروت “دار الكتاب”، التي أصدرت مجلة “صوت المرأة” فتسلم تحريرها، بالإضافة إلى إدارة الدار حتى العام 1948، تاريخ سفره إلى الولايات المتحدة الأميركية للعمل في الأمانة العامة للأمم المتحدة في دائرة الصحافة والنشر. تزوّج من الرسامة هلن الخال. ثم تزوّج للمرة الثانية من الشاعرة مهى بيرقدار. انتسب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، لكنه أعلن في العام 1947 انسحابه رسميًا منه. استدعي في العام 1950 للسفر مع بعثة الأمم المتحدة لتهيئة ليبيا للاستقلال. واستقر نهائياً في لبنان منذ العام 1955. أنشأ مجلة “شعر” الفصلية فصدر عددها الأول في شتاء العام 1957 ثمّ توقّفت في العام 1964، لتواصل الصدور في العام 1967، إلى أن توقفت نهائياً في خريف العام 1970. وقد أعيد طبع مجموعتها كاملة في 11 مجلّداً. أنشأ الخال (1957-1959) صالوناً أدبياً تاريخياً هو صالون مجلة “شعر” المعروف بـ”صالون الخميس”، أو “خميس شعر”. وفي العام 1967 أنشأ غسان تويني “دار النهار للنشر” فانضمّ إليها الخال مديراً للتحرير. من مؤلفاته: “سلماي”، 1936، “الحرية”، 1944، “هيروديا” مسرحية شعرية، 1954، “البئر المهجورة”، 1958، “قصائد في الأربعين”، 1960، “الولادة التانية”، 1981، “الحداثة في الشعر”، 1978، “رسائل إلى دون كيشوت”، و”دفاتر الأيام”. ترجم الكتاب المقدّس، و”الأرض الخراب” لإليوت، 1958، وأصدر “ديوان الشعر الأميركي”، مختارات شعرية، 1958، وقصائد مختارة لروبرت فروست، 1962. وصدرت له “الأعمال الكاملة”.
¶¶¶
الرفاق
أذكر كانوا حزمةً من العصيِّ
كلُّ واحدٍ
منهم شقّ في البحار
درب ثورةٍ، فجَّر ماءً
من مجامع الصخور.
فجأةً
قست عليهم الرياح، سقطوا،
تناثروا هنا، هناك، واحتموا
في ظلِّ غابةٍ من النخيل
آهٍ، هكذا تكسّروا.
كنتُ أُحبّ ينتهون بعد أن
ينتهيَ البناء: ظلَّ ناقصاً
لا سورَ حوله،
سقفَ يقيه غيلة المطرْ-
الرعدُ والبروقُ والمطرْ.
لكنْ لهم عزاءُ مَن يضيع
في متاهة الزمان: أثرٌ
لقدمَين، خبرٌ، علامةٌ
للاحقين. فالمسير في
بداءةٍ، والشمسُ ههنا
والبحرُ والجبالُ:
ما من خطرٍ
من اللصوص، حتى لو،
فالسامريُّ دائماً يمرُّ، دائماً
يضمّد الجراح.
¶¶¶
الفجر الجديد
أنا كلُّ ما أدّعي
حملتُ صليبي معي
أُملِّع يأْسي وأَخنق،
إِمّا جرت، أَدمعي.
فلا الوهمُ في خاطري
ولا الليلُ في أَضلعي.
وأَحيا غريباً وفوق
منال العلى مطمعي
كأَنَّ الذرى موطئي
وجفن السنى مضجعي.
…
أنا يا نجوم اشهدي
ويا – ليالي اسمعي:
سأَخلق فجراً جديداً
إذا الفجر لم يطلعِ
وأبني غداً يدّعيه
الخلود متى يدّعي.
¶¶¶
الشاعر
كفَّن اليقظةَ بالرؤيا وتاه
شاعرٌ كلُّ المنى بعض مُناه
تنزف البرهة من أَيامه
أَلماً يعصر للناس جناه
أَيُّ فجرٍ لم يشيِّع مرتجىً
صاغ في الليل مفاتيح دناه
إيهِ كم مدّ إلى النعمى يداً
وترجَّاها، فمالك عن رجاه
هو في دنياه كالوهم، فلا
فكرة ضمَّته، أو قلب وعاه
جرّح القلب هواه، فانثنى
شاكياً يفضح للغير هواه
ظُنَّ مسكيناً عرته جِنَّةٌ
فمضى يزحم في التيه خطاه:
ليتهم يدرون كم من جِنَّةٍ
أشعلت للكون مصباح هداه!
…
أَيها الشاعر غنِّ نغماً
أَسكرَ ولم يبرحْ صداه:
غنّهِ إلأياذةً من هومَرٍ
أمرعَتْ، والدهر لم يدرك صباه
غنِّهِ ما شئت، كم قيثارةٍ
أَبدعت في عالم الفكر إِله:
سائل الاولومبَ من لبنانَ من
ملعبِ الاغريقِ عن أَمسٍ بناه
تتحدّى العبقريات به
صولة الدهر وتملي ما رواه:
صوراً للفتح لم يحلم بها
قائد ركَّز في النصر لواه:
هوّذا الشاعر رمزُ الحقِّ في
عالم ضلّ عن الحقِّ وتاه
يصلب النفس ليفدي أَنفساً
مرّغت في شهوة الحسِّ الجباه.
عقل العويط
النهار
akl.awit@annahar.com.lb