الارض هذه الليلة تعي حقيقة وجودها. فهي في روائعها ولألأتها تزف الى الدنيا دنىً من وجاهة العزة الالهية. هنيهاتها كان الزمن لأجلها، فهي في ما تجود به وتتلقاه تعطي الدنيا وتستردها حتى تصبح دار الفناء دار بقاء. وهذا الليل الذي طاب له أن ينطرح على الارض وشاحا طاب للأرض فيه ان تستنزل السماء عليها ما تتباهى به الألوهة تجسيدا.
إن إقامة الظلمة على الارض باتت حلوة الاقامة في الصدور، وإن جثمت عليها، وهي تتمنى ان لا يلونها لون الفجر الذي يضحي كل نجم فيها قحة وكل التفات اليها أذية. والمنازل في أطراف بيت لحم طالت اغفاءتها، غير ان مذودا فيها لم ينطفئ بعد. فضوؤه يختنق ثم يتنفس، والسماء فيه تصلي هذه المرة ولا يصلى لها. ففي بعض ومضاته أشياء تتهالك وتخشع، ثم تتبسط جلابيبه في ساعة السخاء الذي لا منة فيه فكأنها صدور محمومة تزداد اضطراما واشتعالا كلما ازدادت جوى وحنينا.
مذود يجفو وحيدا، ولكن لا جفاء عليه. إنه ينتظر ما تنغلق عليه الضلوع ولا تنغلق دونه. ويتسع ضيقه عن فضاء أوشك الفضاء ان يضيق به. ويحب كثيرا ان تنهب ثناياه نهبا، وأن تطول فيه الهنيهات التي تتوالى في ترقب نعمة الهناءات. وأخذت السماء تعرى من نفسها، فما يرى منها كأنه لا يرى، وصمتت فيما ارتمى منها وما شع من أنوارها وتموج في أفلاكها عطايا لا نزورة فيها فحسب الاحداق ان تكتفي بما تفتحه من مرئياتها، والاعماق بما تختزنه من غواليها وتتريث حتى تنسكب فتنسكب معها الابصار وتذوب فيها الجوانح الجرار.
ولد الطفل إلاله وتنبهت الدنيا وهي سكرى في ليلها السكران الذي يمتد معه الضياع حتى يستنفد كل حس وكل وهم رجاء، فجر الحياة وشعت أنواره هدى وانتشرت تباشيره خلاصا.
الألوهة تتجسد ويختصر في هاتين الكلمتين ما تجلى به روائع الاسرار وبلاغة معانيها. الإله صار انسانا فتدانى محبة وتفانى تضحية وتسامى رسالة حق وخير لا يبخل بها. انما هي اكتناز مستمر لئلا تنطبق شفتان على جوع.
لم يكن ميلاد الطفل الإله عيد أمة وخلاص شعب وقيام مملكة، بل كان ولادة ثانية للبشرية جمعاء. أحب الله فيها ان يجدد ذاته في خلقه نورا يكشح الظلمة ومعرفة تقضي على الجهل وحقا يزهق الباطل وحياة تصرغ الموت وخلودا يمحو الفناء. حروف الكلمة في الايمان أصبحت روحا وقواعد ونواميس العبادة غدت حنايا تخفق وقلوبا تذوب وشفاها تصلي، وعرف الانسان انه ابن السماء لا ابن الارض، وأن حبات التراب التي نشأ منها لن يعود اليها، بل سيعيدها الى جنة العلي بذورا تبذر غرسات وارفة بظلالها وثقيلة بثمارها.
قبل ولادة يسوع كانت البشرية في شبه غربة عن ربها وخالقها. فبين السماء والارض رسائل ووصايا يوصى بها وتنقل وتنشر وبعد الميلاد رأت البشرية الرب الاله وسمعته ولمسته وكلمته ورافقته في الكثير من مراحل حياته على الارض تعليما ومناقشة وحوارا وتوجيها وتفسيرا وتنويرا وآمنت وانتصرت بالمحبة على البغض وبالتضحية على الانانية وبالتواضع على الكبرياء وبالبذل على الجحود وبالتسامح على الادانة وبالحق على الباطل.
ميلاد يسوع انطلاقة على درب الجلجلة وانتصار على الموت وقيامة الدنيا في رحاب السماء خلودا أزليا ونعيما سرمديا لأبناء الخلاص.
رحماك يا طفل المذود إلهنا ومخلّصنا. ففي لبنان دروب شائكة وأخاديد معوجة شقها وحفرها الآخرون وسيرنا عليها جلجلة اثر جلجلة. فاجعل من الصلبان التي حملها اللبنانيون المؤمنون بوطنهم كيانا راسخا موحدا لا أرضا مجزأة مستباحة، علامات انتصار لتثبيت دعائم الحرية والسيادة والاستقلال.
فردريك نجيم / النهار