تنوعت وتزايدت الهجرة الأرثوذكسية في بلاد الغرب ، فهناك أقباط كنديين وأوروبيون وأمريكيون واستراليون ، لأن كنيستنا القبطية صارت منتشرة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها، تضم من كل القطعان والشعوب ، أقباطًا ناطقين بلغاتها مولودين فيها … فقد وصل الإيمان الأرثوذكسي إلى الغرب مع أفواج المهاجرين الذين حفظوه وعاشوه كخبرة حياة مستمرة وككنز ثمين ، واختبروه كتسليم وتقليد وتخم قديم وتليد يربطهم بجذورهم الراسخة المتأسسة على ما علّمه المسيح له المجد وكرز به الرسل ونقله الآباء الأولون.
لذلك لا ينبغي أن تظل الكنيسة الجامعة الأرثوذكسية محدودة بتاريخ الهجرة وسيكولوچية المهاجرين ؛ لأن إيماننا الرسولي يخص الكنيسة الجامعة التي تلغي كل تحديد ، ليس فقط لتشمل أبناء وأحفاد وأجيال المهاجرين الذين يكوِّنون الأرثوذكسية المستقبلية ؛ بل تمتد لتكرز وتشهد لآخرين ، وسط مجتمعات تتضور جوعًا للحياة بحسب الروح ، فينضم للإيمان الأرثوذكسي كل من يكتشف فراغ الأيديولوچيات المعاصرة وخواء النمط الثقافي في أن يُشبع النفس البشرية.
ويتخطى وزن الشهادة الأرثوذكسية مجرد الأهمية العددية ، وفق المفهوم الاكلسيولوچي والروحانية الأرثوذكسية وجمال جاذبيتها وعمقها ، المؤسس على العمق والخبرة (تعال وانظر!!) في بهاء (الأسرار) واستقامة (الحياة) وزخم (الآباء) وإنجيلية (الخدمة) ورباط (الشركة) وعملية (الأغابي) وعمق (الليتورچيا) وتفسير (الإنجيل) المعاش، وكرامة ومجد (الشهادة) ونسك النساك والزهاد والاستعداد للمجيء (الاسخاتولوچي).
هناك عطش روحي وإلحاد وإباحية مقننة في الغرب ، تدعونا إلى الغوص في جذورنا لنُخرج منها جددًا وعتقاء ، واعين إلى عدم الإفراط أو التفريط ، حتى لا نتأثر سلبيًا بالتيارات الشخصانية والأفكار الوجودية وبتعظيم البعد الكوني والنزعة الاستهلاكية والمادية وانفلات الحريات الشخصية ودعوات الخلاعة والنجاسة والشذوذ … بل بالحرﻱ تدفعنا هذه الاتجاهات السائدة إلى التعرف أكثر على جذورنا وفرادتنا لتأصيلها ، فنذوق ونفهم ونعرف ثم نترسخ، حتى نقدر أن نواكب ونجمع بين الأصالة والمعاصرة بإتّزان وتعقل مميز.
فلا يمكننا فقط الاكتفاء بمؤلفات عصر الآباء ، لأن الروح يهبّ دائمًا ليجعل التقليد خلاقًا ومبدعًا ، فيمتد ويكتمل على طريق عموم الآباء إلى الأمام وإلى ما هو قدام ، ويتخطاه ليبني عليه … لأنه إن أردنا للتقليد ان يبقي حيًا وفاعلا ، عليه أن يواجه العواصف والمتغيرات والتحديات بروح الإنجيل وطاعة الوصية الإلهية وبفكر الآباء الأولين عبر كل العصور ؛ كي نتعاطى مع الأحداث الجارية واتجاهات أنماط الحياة الحالية والمتسارعة الإيقاع.
وجدير بنا أن ننظر إلى الرديكالية الأصولية والهجمات البربرية الموجهة عالميًا ضد الإيمان المسيحي ، وعندئذٍ نتنبه لشهادتنا الأرثوذكسية العالمية ، الموضوعة علينا كضرورة … حيث تكون المحبة والمعرفة والحكمة والاستقامة أسلحة تغلب كل الصعاب ، وتتجاوب مع المسؤلية والرسالة الأرثوذكسية ، التي ينبغي لها أن تكون حاضرة وفعالة ومسموعة عاليًا ؛ فتقوم الكنيسة دائمًا بدور الكاتب المتعلم الذﻱ ورد ذكره في أمثلة السيد الرب ؛ أنه في ملكوت الله يخرج من كنوزه جددًا وعتقاء (مت ١٣ : ٥٢) ، متمسكة بالتقليد المعلن في الأناجيل والمعاش بالروح على مدى الأجيال ، على أن لا تقف بعقلية راكدة أمام علامات الأزمنة ، بل بتفكير رسولي وآبائي خاشع ملتزم بالحوار والبحث العميق … حتى تحقق الأرثوذكسية شهادة وجودها العالمية ؛ ولا تكون متباعدة عن أجيالها الصاعدة – (الفتيان والشباب المولودين في بلاد المهجر) – بل تواجه هذه التيارات باستمرارية حفظ الحق الثابت فيها . لأن الهروب والتقوقع ليس قابلاً للنجاح و لا الديموية ، ولا هو واقعيًا في عالم يحتاج إلى الخلاص من طوفان الهلاك السادومي .
لذا الكنيسة مدعوة للحوار مع العالم ومدعوة إلى محبته في الإيجابيات الحضارية التي فيه ، حتى لا نكون مجرد مذهب ديني منغلق على ذاته ، بل يكون لنا بعد كوني وموضع فاعل وكرازي وسط الثقافات ، خلال رسالة تقليدنا الحي الذﻱ يحتوي حياة كل ما هو حق وجميل، ويرفض كل ما هو مزيف وفاسد ومبتدع … رسالة خلاص ملكوت السموات ،رسالة تقديس ورجاء لكل من خاب أمله في الجرﻱ وراء ما هو عالمي ودنيوي وأيديولوچي فارغ ، حاصدًا السُّكر والدنس والعربدة والخلاعة والانتحار وإغاظة الله وإنكار وجوده.
إنها رسالة الأرثوذكسية التي هي قانون حياة وإيمان لكل العصور … ذلك القانون له أمانته واعترافه وسياقه ومنهجيته ، فلا يتناول معنا إلا مَن هم واحد معنا في الإيمان … (رب واحد؛ إيمان واحد ؛ معمودية واحدة) لأن كنيستنا لم تخلط عبادتها بنمط “ليتورچي هجين” ولم تتبع وسائل الاقتناص من منطلق “الضيافة الافخارستية” بل تحرِّمه وترفضه . كذلك لم تتراخى حيال تقوىَ روحانياتها الاكلسيولوچية وتاريخها اللاهوتي والنسكي والرهباني ، الذﻱ تخلى عنه البعض لأسباب سياسية وقومية.
عقيدتنا الأرثوذكسية كلما تقدمت بنا الأيام ، كلما زدنا فيها ثباتًا ، لعمقها وقناعتها وخبرتها وإنتاجها لربوات من القديسين والشهداء … نؤمن بها وهي قاعدة وقانون حياتنا ، وهي أيضًا شعارنا وعهدنا وكلمة سرنا ورمزنا وخريطة مسيرتنا ، لأنها عطيه الله التي لا يعبر عنها والتي تترجم بطريقة تعاش ، حية في صورة أعمال وعقيدة مستقيمة … عالمين ما نؤمن به وموقنين بالقادر أن يحفظ وديعتنا إلى ذلك اليوم (٢ تي ١ : ١٢) شهادة أرثوذكسية قائمة على (اختبار ويقين) تنطلق من الاكلسيولوچيا الافخارستية كعربون الخيرات المقبلة.
الوسوم :الأُرْثُوذُكْسِيَّةُ فِي الغَرْبِ بقلم القمص أثناسيوس چورچ