طلعت باشا،شبح تركيا الدموي
بقلم د. ايلي مخول
في 15 آذار 1921، أصيب رجل يبلغ من العمر 47 عامًا برصاصة في رأسه في برلين. اسمه: محمد طلعت باشا. عاش في المنفى في العاصمة الألمانية منذ فراره من إسطنبول، قبل وقت قصير من استسلام الدولة العثمانية، في تشرين أول 1918. على مدى خمس سنوات كان الصدر الأعظم السابق برتبة وزير فيها هو الرجل القوي؛ بهذه الصفة كان مهندس ومنظم الإبادة الجماعية للأرمن. الشخص الذي أطلق عليه النار أرمني، يُدعى سوغومون تِليريان. عائلته جميعا لقيت حتفها خلال المجازر التي ارتكبت بالقرب من أرزنجان. لم يتصرف بمفرده. كان جزءا من عملية سمّيت فيما بعد نِميزِيس: لقد قرر الاتحاد الثوري تطبيق أحكام الإعدام الغيابية التي أصدرتها المحاكم العثمانية 1919 ضد قادة تلك الدولة السابقين الذين فرّوا من البلاد. عملية مطاردة مذهلة غير مقدَّرة، من برلين عبر روما وجيورجيا، أقصت طلعت باشا وجمال باشا وسعيد حليم باشا، الذين لم يكونوا وصفوا بعد ب “مرتكبي الإبادة الجماعية”. خلال محاكمة تليريان في برلين، أدرك طالب القانون البولندي الشاب رافائيل لِمكين أننا نواجه فراغًا قانونيًا لمعاقبة مثل تلك الجرائم المرتكبة ضد الشعب.
قبل أربع سنوات، نشر تانر أكشام في إصدارات المركز الوطني للبحث العلمي أوامر بالقتل تحقيقًا مثيرا للعاطفة والإهتمام. ففي معرض التصدّي لأكاذيب حكومة أنقرة الحالية، المنخرطة في إنكار الإبادة الجماعية للأرمن، أظهر حقيقة وصحة البرقيات المشفّرة الصادرة عن طلعت باشا، وزير الداخلية 1915. في تلك الرسائل، كان هذا الموظف السابق في مركز قيادة سالونيك يأمر بترحيل وإبادة الأرمن. ” فيما يخص الأرمن، فقد انتُزعت منهم حقوقهم في الأراضي التركية، مثل حق العيش والعمل، ولا ينبغي أن يبقى أحد منهم، ولا حتى طفل حديث الولادة في مهده. (…) أما بالنسبة لطرد أولئك الأشخاص، فلا يجب التسامح مع أي أعذار أو استثناءات، سواء كانوا نساء أو أطفالاً أو أشخاصاً لا يستطيعون الوقوف أو المشي”. في غضون ذلك نشر المركز الوطني للبحث العلمي أول سيرة ذاتية باللغة الفرنسية لطلعت باشا، موقعة من السويسري هانس لوكاس كِيزر*. يُذكر أنه في نهاية تشرين أول (2023) صادف الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس تركيا. لقد حان الوقت للنظر إلى الشخص الذي يعتبره كيزر المؤسس الآخر، مع أتاتورك، لتركيا الحديثة. مؤسس أقل رسمية – في عام 1923 كان ميتا بالفعل – ولكن ليس أقل حسما. ولا يزال ظله يخيم، لأنه يقع في قلب التاريخ التأسيسي للدولة الوطنية التركية، الجمهورية التركية الحالية”.
لفظ أنفاسه الأخيرة. هذا المؤسس، الداهية، نِعمَ الوسيط، والمحاور الكبير، قد تقمص تلك المواصفات لسببين. تزعّم حزب تركيا الفتاة، حيث نظّم الفصائل لتأسيس حزب واحد ومهيمن، هو جمعية الاتحاد والترقي عُرف بلجنة الاتحاد والتقدم: سلطة موحدة استولى عليها وقلدها أتاتورك ثم أردوغان. لقد كان هناك حديث منذ فترة طويلة عن تشكيل ثلاثي يتكون من طلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا. ومع ذلك، كانت أول من تولى القيادة، وتحولت من داخل الإمبراطورية العثمانية متعددة الطوائف إلى دولة قومية ومسلمة، يُزعم أنها مهددة بالانقراض وبحاجة إلى التحرر من النفوذ الأجنبي.
«أردوغان جزء من حراك طلعت في أيديولوجيته. » هانس لوكاس كيزِر
حجر أساس آخر أرساه طلعت: مباشرة العمل بعقيدة، في هذه الحال، القومية التركية الإسلامية، ابتكرها صديقه المنظّر الأيديولوجي ضياء كوك ألب. طلعت، العِصامي (المتعلم على نفسه) المنتسب إلى مدينة أدرنة الواقعة في الجزء الأوروبي (بالقرب من الحدود مع بلغاريا واليونان) والتي سقطت خلال حرب البلقان 1913، يتكلم عن Türk Yurdu، التي يترجمها كيزر ب “وطن قومي تركي”. للخروج من تلك الصدمة، ألقى ببلاده في الحرب العالمية الأولى وفي الجهاد ضد غرب الحلفاء الذي يمر بالقضاء أولاً على الروم، مسيحيي إزمير الأرثوذكس، ثم الأرمن. ذلك لأنه لفظ أنفاسه الأخيرة في ربيع 1915، بعد الهزائم الأولى ضد روسيا في القوقاز، ولكن أيضًا في شمال إيران، على قناة السويس. الحلفاء يستعدون للهبوط في الدردنيل. بصفته وزيرا للداخلية، إختلق فرضية أمن الدولة المهدَّد على الجبهة الشرقية من قبل العملاء الأرمن الذين يدافعون عن مصالح الروس مقابل أجر. ويسرد كيزر التعليمات التي أصدرها لمحافظيه في مناطق أرضروم، فان وبدليس، من أجل ترحيل السكان الأرمن إلى الصحراء السورية. هذا الإندفاع نحو الإبادة قد مرّ أيضًا بعملية إغراء قام بها تجاه حليفه الألماني. وعندما علم سفير برلين فانغِنهايم، من قناصله بأن الجثث تطفو بالمئات على نهر دجلة، برر طلعت نفسه قائلاً: «نحن نتخلص من الأرمن لنكون حلفاء أفضل لكم، أي من دون أن نضعُف على يد عدو داخلي.” أعطى الألمان موافقتهم، “مفتونين” بموهبة الإنتهازي، والمزيج الظريف من الإرتياب والنفس التهكّمي، مما يعزز سحر هذه الشخصية الجذابة، “على ما جاء على لسان خليفة فانغنهايم، بِرْنْشتُورف. وكان لا بد من انتظار 2016 حتى يعترف البوندستاغ (مجلس النواب الألماني) بالإبادة الجماعية وبمسؤولية مشتركة معينة لألمانيا.
إنكار. على غرار مرتكبي جرائم إبادة جماعية، فإن طلعت هو رجل مؤامرات يعيد كتابة التاريخ. فقد نقل عنه الصحافي الألماني إميل لودفيغ: “نحن لسنا قساة، بل ببساطة نشيطين، وفي أيدينا الدليل على وجود مؤامرة أرمنية”. وبتزامن هذه المجازر مع الانتصار على الغرب في معركة غاليبولي أوائل شهر ايار، يصبح طلعت منقذ الأمة، رجل المستقبل، النبي. “أنت نُوح شعبنا، لولاك لكانت هذه الأمة يتيمة”، هذا ما صرح به غوك ألب لصحيفة حزب تركيا الفتاة.
مثل هذه العقول لا يمكنها أن تدرك هاوية الهزيمة. ففي آذار 1918، عندما وضع مؤتمر بريست ليتوفسك للسلام بين الألمان والبلاشفة روسيا خارج اللعبة، كان طلعت، الذي وقع أيضًا مع موسكو، مقتنعًا بالقدرة على استعادة السيطرة على القوقاز – والجيش العثماني يهدد يريفان في حزيران – وبالحصول على مكاسب إقليمية في البلقان. لكن ذلك كان بداية النهاية. فالأرمن قاوموا، الحليف البلغاري استسلم، وانزوى طلعت في إنكار وضع عسكري مخيف. وبعد أن تعرض للتهديد من قبل سلطان جديد أكثر تحفظا، ومحاطا بوزير حربية لا يمكن ضبطه، هو أنور باشا، توجه طلعت لطلب المساعدة من برلين، الحليف الألماني، المتخوف من حجم المذابح التي تعرض لها الأرمن، والمرتبك إزاء هجومه المضاد الذي لم يعد يستطيع أن يفعل له شيئًا سوى إيوائه.
لهذا فإن فراره إلى برلين، التي وصلها عشية الهدنة، في 10 تشرين ثاني 1918، لا يعني أن العلاقات ستُقطع مع تركيا، حتى لو سبق أن حكم عليه هناك بالإعدام غيابيا 1919. كيزر أفشى بمراسلاته مع أتاتورك، رجل أنقرة القوي الجديد، الذي أبقاه بعيدًا بلباقة – لأن يدي الرجل ملطختان بدماء كثيرة – لكنه شجعه على القيام بالتحريض والدعاية لتركيا في جميع أنحاء أوروبا. تعهد الوحش السياسي طلعت بالولاء لزعيم تركيا المقبل. «كان من المهم بالنسبة لمصطفى كمال أن يلقى دعم طلعت له، شريطة أن يعترف بسيطرته، وبحكومته في أنقرة، بحيث يتعامل معه باعتباره «أخًا» مقرَّبًا ونشطًا. » إذا خفف من البعد الإسلامي فإن كمال يصطف في خط طلعت باشا.
من أجل جذب تركيا إلى جانب المحور، وافق هتلر 1943 على إعادة رفاته إلى إسطنبول. أعيد دفن طلعت عند نصب الحرية، فوق مقابر الأرمن في شيشلي، وتم تشييعه في جنازة رسمية. كما أطلق اسمه على العديد من الشوارع والساحات، ولا سيما الجادة التي تؤدّي من بلغاريا إلى تركيا، في مسقط رأسه، أدرنة.
إذا كان أردوغان حريصًا على عدم التحدث في هذا الشأن، يقول كيزر: “إنه شخصية دولية مثيرة للجدل إلى أبعد الحدود. علاوة على ذلك، قد فشل في مشروعه، وكان من حركة تركيا الفتاة التي خلعت السلطان عبد الحميد 1909، والذي تماثل معه أردوغان صراحة. ولكنه سياسياً جزء من حركة طلعت، من ثقافة الحزب الواحد، الزبائنية، الفاسدة، ذات الأيديولوجية التي تدعو بكل معنى الكلمة إلى إسلاموية ممزوجة بالقومية المتطرفة. طلعت هو الوجه الخفيّ. »
* هانس لوكاس كيزر Hans Lukas Kieser(من مواليد 1957) مؤرخ سويسري لأواخر عهد الدولة العثمانية وتركيا، وأستاذ التاريخ الحديث بجامعة زوريخ ورئيس مؤسسة الأبحاث السويسرية التركية في بازل. مؤلف كتب ومقالات بعدة لغات.
أبدى اهتمامه بتركيا والدولة العثمانية أثناء دراسته في جامعة بازل حيث التقى بلاجئين من الانقلاب العسكري التركي 1980. أدى هذا الاهتمام إلى إعداد أطروحة دكتوراه إصدرها فيما بعد الناشر التركي إيلِتيسيم.
طلعت باشا، بقلم هانز لوكاس كيزر
ترجمه من الألمانية غاري أولوبيان
(منشورات المركز الوطني للبحث العلمي، 616 ص.)
كان محاضرًا و أستاذًا زائرًا في جامعة ستانفورد (2010)؛ جامعة ميشيغان (2008)؛ وجامعات أخرى، منها جامعة بامبرغ، وباحثا زائرا في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس، فرنسا، وجامعة بيلغه في تركيا. حصل على منح دراسية من المؤسسات الجامعية في بازل وزوربخ وفرايبورغ ومن الصندوق الوطني السويسري.
هو حالياً أستاذ التاريخ الحديث في جامعة نيوكاسل بأستراليا.