تكتسي الذكرى المئويّة الأولى للإبادة الأرمنيّة أهمّية قصوى هذا العام، ليس لأنّها الذكرى المئويّة الأولى وحسب، بل لأنّها تأتي في ظلّ الظروف القاهرة التي نشهد فيها انحدارًا متواصلاً للوجود المسيحيّ في ديارهم التاريخيّة أو معظم ديارهم.
إبّان المائة سنة الأخيرة تمّ تراجع الوجود المسيحيّ في تركيا حتّى كاد أن يصل إلى العدم. تركيا التي كانت متنوّعة مسيحيًّا، حيث كان الروم والسريان والأرمن يحيون في أهمّ بقاعها، كبادوكية، الأناضول، كيليكيا، القسطنطينيّة، أنطاكية، إزمير، ديار بكر، ماردين، الرها… صار الوجود المسيحيّ فيها أثرًا بعد عين.
فلسطين، مهد المسيحيّة، الأرض التي عاش عليها يسوع الناصريّ، إله المسيحيّين الصائر إنسانًا، عاد إليها الصهاينة ليفتكوا بالذين آمنوا به ربًّا وفاديًا، وليصلبوا مَن آمنوا بصلبه وقيامته. فبعد نحو قرن من وعد بلفور (1917) السيّء الذكر تقهقر عدد المسيحيّين في فلسطين التاريخيّة من حوالى عشرين بالمائة إلى ما دون الواحد بالمائة.
العراق، عراق المناذرة والحيرة والموصل وبغداد ونينوى ودجلة والفرات، عراق المسيحيّة العربيّة والسريانيّة والأشوريّة قضي على المسيحيّين فيه وعلى وجودهم عبر قرن مضى من الزمان، وفي ظلّ صمت مريب من الأبعدين والأقربين على السواء.
تختلف الأسباب الكامنة خلف هذا التراجع المضطرد في أعداد المسيحيّين، باختلاف الأزمنة والبلدان والظروف والسياقات. ثمّة المصالح الدوليّة وسياسة “فرّق تسُد”، والتعصّب القوميّ، واستغلال العامل الدينيّ والطائفيّ والمذهبيّ في الصراعات السياسيّة، والتطرّف الدينيّ، والأحلاف السياسيّة والعسكريّة، والعوامل الاقتصاديّة، والحقد الصهيونيّ…
غير أنّ هذه الأسباب لا تبرّئ المسيحيّين من المسؤوليّة، أو من المسؤوليّة الجزئيّة، عمّا آل إليه مصيرهم بسبب بعض الخيارات التي تبنّوها وسلكوا بمقتضاها عبر القرن الماضي. كما أنّنا عندما نتحدّث عن معاناة المسيحيّين وتقهقرهم، لا يعني ذلك أنّنا ننكر معاناة شركائنا في هذه الديار من مسلمين وغير مسلمين أيضًا. كلّنا يدفع الثمن، وكلّنا ضحايا أنفسنا.
تبقى الإبادة الأرمنيّة، التي ذهب ضحيّتها أيضًا سريان ومسيحيّون آخرون، الرمز الأسمى للشهادة المسيحيّة في القرن العشرين. من هنا ضرورة الاعتراف بها كي لا تتكرّر بصورة أو بأخرى، وكي يكفّ ضحاياها المصلوبون والمذبوحون عن البكاء والصراخ طلبًا للعدالة والسلام.
لا بدّ في هذا السياق من التأكيد على أنّ عوامل عدّة دفعت في اتّجاه ارتكاب الإبادة الأرمنيّة. ولا ريب في أنّ اختلاط المشاعر القوميّة ذات الطابع العنصريّ من جهة، والمشاعر الدينيّة المتطرّفة من جهة أخرى، ومصالح الدول الأوروبيّة القويّة مع الدولة العثمانيّة المحتضرة قد تضافرت جميعها ضدّ الأرمن وبعض أبناء الأقلّيات الأخرى.
الدولة العثمانيّة التي قامت على أنقاضها الدولة التركيّة الحديثة هما المسؤولتان، الأولى تليها الثانية، عن الإبادة الأرمنيّة. الأسباب المباشرة التي أدّت إلى الإبادة ليست هي المهمّة. هل هي الدوافع الدينيّة أم القوميّة التي أدّت إلى الإبادة؟ ليس هذا السؤال الملحّ اليوم. ما ينبغي الإصرار عليه اليوم إنّما هو التأكيد على أنّ الدولة التي كانت حاكمة آنذاك، أيًّا كانت هويّتها، هي المسؤولة.
ليست المسألة، إذًا، مجرّد ذكرى لإبادة حدثت منذ قرن من الزمان، بل المسألة هي أنّ الإبادة ما زالت مستمرّة منذ قرن، وقد نجم عنها اقتلاع معظم المسيحيّين من البلاد التي شهدت براعم المسيحيّة الأولى. أمّا بداية الاعتراف بالإبادة والاعتذار عن عارها، فتكون بالكفّ عن دعم الإرهابيّين الذين يواصلون إبادة أحفاد الأرمن والسريان والعرب المسيحيّين، وبإعادة الحقّ إلى أصحاب الحقّ.
ليبانون فايلز