القصص المليئة بالرعب والدماء التي تلي قد لا تزعج بعض الوُعّاظ وعلماء الأخلاق. ذلك أن التهديد بالانقلاب بصورة دائمة، وفي كل مكان، وبشكل يقتدى به، عبر آلاف السنين، يثقل كاهل الطغيان الشرقي كالسيف الحاضر دومًا للضرب باسم العدالة الإلهية. مما لا شك فيه أن أحدًا لم يسبق له أن رأى سلطة متغطرسة ومتبجحة مثل سلطة الأخمينيين والعثمانيين، وملك الملوك وسلطان السلاطين؛ كما أنه لم يكن هناك مطلقًا وجود لحكام ضعفاء ومفلسين إلى هذا الحدّ، يجسدون بشكل أفضل حتمية الموت المرتبطة منذ فجر العالم بـالتجربة البشرية ل “القدرة الربّانية”.
بعد الإسكندر وروما وبيزنطيا، قامت قبائل من البدو خرجوا من آسيا الوسطى حوالي القرن الحادي عشر الميلادي، وعرفوا بالأتراك السلاجقة، تدريجياً بغزو جميع المناطق التي سبق أن تألقت فيها الحضارة الفارسية في العصور القديمة. فانتصبت مساجد الإسلام مكان مذابح النار البدائية العائدة لمجوس إيران القدماء. إلاّ أننا لا نحسّ كثيرا بالغربة إن عبرنا بقفزة ما يقرب من ألفي سنة، تاركين وراءنا قصر الملك العظيم وصولاً إلى سراي سلطان الباب العالي. وتبقى عبقرية الاستبداد الغاشمة أمينة للمشهد المألوف.
في خفايا السراي
في اسطنبول، العاصمة العثمانية، تشكل السراي مدينة داخل المدينة. وراء أسوارها العالية المحصنة تتوارى القصور والحدائق والجوامع. هنا يعيش السلطان، الباديشاه (كلمة فارسية) مع آلاف الضباط والغلمان والبوابين والخدم، مع خصيانه البيض والسود، ومع حريمه الخمسمائة أو الستمائة اللواتي جاءه بهن مجندون بالإغراء من كل بقاع آسيا وأوروبا وأفريقيا. طاغية كئيب، إنطفأ قلبه باكرا جدا في دسائس الحريم وفترت طاقته ببطء في أنظمة آداب المعاشرة الكثيرة التدقيق. ماذا يعرف عن الناس وعن شعبه؟ لا يحق لأحد أن يخاطبه، باستثناء الصدر الأعظم والمفتي، فقط عندما يستدعيهما. وإذا حضر مرة المجلس الكبير، الديوان، فلا يتفوّه بكلمة، ووجهه محتجب خلف مَشبَك ذهبي. في الأماكن العامة، لا يظهر أمام الناس أبدًا تقريبا. إلاّ فيما ندر، ودائما محاطًا بموكب مهيب. لكن السلطان يروح يتلهّى عندما يسأم قصص حَرَمه. فيتنكّر، ثم يقوم بجولة في المدينة يرافقه القليل القليل من حاشيته ويتبعه الجلاّد. وعلى المارة أن يحترموا العاهل المتخفّي. أحيانًا، أثناء نزهته، يلاحظ السلطان مخالفة لتعليمات الشرطة؛ يعطي إشارة، فيؤدّي الجلاد وظيفته على الفور. نادرًا ما يعود إلى السراي بدون أن تسقط بعض الرؤوس، لأنه لا بأس إن جرى دفع الناس إلى الخوف من العدالة الأمبراطورية.
لا يوجد حاكم مطلق أكثر من السلطان العثماني. فليس ثمة من رادع لتعسفه، خارج أوامر الدين ونواهيه التي يفسرها على هواه. من آخر المتسولين إلى أكبر مسؤول، كل رعاياه هم ملكه وعبيده: هذا هو اللقب الذي يطلقه عليهم والذي يعرّفون به عن أنفسهم في جميع المعاملات الرسمية. بالمقابل، ليس هناك من لقب مهما سما بإمكانه تعظيم جلال “سلطان السلاطين المجيد”: إنه ممثل “العليّ”، إمبراطور الأباطرة الجبّارين “،” ظل الله على الأرض “، ” ملاذ العدالة “و” مركز الانتصار “، “سلطان المملكتين والبحرين “.
أسعد من ملوك بلاد فارس، ليس عليه أن يحسب حساب إقطاعيين، وأرستقراطية عريقة النَسب. إنه السيد المطلق لحياة رعاياه، ومالك البلاد الوحيد؛ هو أيضًا صاحب الأرض. قوة واحدة، في السلطنة، باستطاعتها تأمين التوازن معه – قوة العسكر. في الواقع ان السلطان العثماني هو فاتح من ناحية المبدأ. مثل الخلفاء القدامى، يدعي لنفسه مجد “أمير المؤمنين”، ويشعر بأنه مدعو للجهاد في سبيل الإسلام. إذن يحتل الجيش مكانة راجحة في تركيا. فقد كان لبضعة قرون، الأول في العالم: حوالي العام 1400، عندما لم يكن بتصرف ملك إنكلترا وملك فرنسا سوى وحدات عسكرية مقدمة من كبار الإقطاعيين لديهم، كان السلطان العاهل الوحيد في العالم الذي بحوذته جيشًا نظاميًّا.
حرس طاغية على أهبة الإستعداد: الإنكشاري
شكل العام 1334 نقطة تحوّل حاسمة في مصير السلطنة التركية. يومها قرر أورخان غازي، العاهل العثماني الثاني، تأسيس فيلق مشاة جديد من النخبة، يكون تكوينه بالفعل فريدًا في التاريخ العسكري. فتم تجنيد أولئك الإنكشاريين (من يني تشيري، “القوات الجديدة”) فقط من بين الأطفال المسيحيين الذين انتزعوا من عائلاتهم، إما كأسرى حرب، أو بموجب مرسوم يُلزم جميع المسيحيين في البلدان التي غزاها الأتراك بمنح السلطان واحدا من كل خمسة من أبنائهم.
يقول خلكونديلوس، وهو مؤرخ بيزنطي من القرن الحادي عشر، إن الأطفال الذين يقعون في الأسر يُنقلون إلى آسيا لمدة عامين أو ثلاثة لتعلم اللغة التركية. وحالما يتسنى لهم أن يتكلموا ويكتبوا اللغة، يتم إرسالهم، بدُفعة ألفين أو ثلاثة آلاف، إلى الأسطول المرابط في غاليبولي، حيث يجري تدريبهم للخدمة في البحرية. كل عام يتلقون ثياباً وسيفاً. من هناك، يتم استدعاؤهم إلى الباب العالي، براتب كافٍ للعيش، غير أنه يزيد بالنسبة للأفراد الأكثر تميزًا. ثم يوزّعونهم في وحدات من عشرة أو خمسين تحت إمرة ضباط ذوي خبرة، يؤدون الخدمة في معسكرهم لمدة شهرين؛ في هذا الوقت يستعدون لتولّي مهمة حراسة قصر السلطان الذي لا يسمح لأحد بدخوله إن لم يكن من أمراء الدم والوزراء وكبار موظفي الخزينة وخدم الملك.
تلك هي إذن فرقة الإنكشارية الشهيرة، الأكثر تماسكًا والأشد تزمّتا من أي منظمة قتالية تابعة للأنظمة الشمولية الحديثة. فقد أثبت الإنكشاري، ذلك المرتدّ الجَموح، الذي فصل عن عائلته وهو طفل وقطع عنه كل ارتباط شخصي، وتربّى تربية دينية قاسية، مكرسا ذاته نفْسًا وجسدًا للسلطان وضباطه، أنه جندي يتميز ببسالة عمياء.
حسم معركتي كراكوفيا (بولونيا) وفارنا (بلغاريا) لصالحه ضد إخوته المسيحيين الذين غابوا تماما عن ذاكرته. في الجيش التركي إحتل مكانة خاصة. تعرفه من لُبّادته البيضاء المميزة. سلاحه لا يجاريه فيه أحد، القَرَبينة الحلَزونية والخنجر. تختلف رتب فرقة النخبة عن تلك المعتمدة في الأسلحة الأخرى: مِن عجَب أن تطابق أسماء الضباط عند الإنكشاريين مع الأعمال المختلفة في المطبخ وأن تجري مداولات الفرقة حول الطناجر الكبيرة. فعندما يتذمّر الإنكشاريون يقلبون طناجرهم. وكثيرًا ما تكرر ذلك في تاريخ السلطنة العثمانية المضطرب.
إذ أن الإنكشاري هو حرَس طاغية في أنقى صوره – يتجلّى بشجاعة أُسطورية، وعلى استعداد لكل الأعمال العظيمة، ولكنه مدلل جدًا من جانب السلطة التي تُفضي عليه جَلالاً ومزايا، وتجعله، شيئًا فشيئًا، طموحًا طمّاعًا لا حدّ له. فتثبّت التشيّع للطبقات. وسَرعان ما حصلت فرقة الإنكشاريين على الحق في تجديد نفسها بالوراثة. وهكذا خلق السلطان، بشكل مصطنع، أرستقراطية غريبة من السيافين المنتزعين من بيئتهم. وبدأ عصر الانقلابات.
قتل الأخ، مؤسسة امبراطورية
أتاحت المآسي الوراثية التي أصابت الأسرة الحاكمة للانكشاريين بوفرة الكثير من الفرص للعب دور تحكيمي. كان تعدد الزوجات مبدأ سياسيا مشؤوما إختبرته تركيا زمنًا طويلا. فعندما يموت ملك عن خمسة عشر أو عشرين إبنًا، جميعهم ولدوا من أمهات مختلفات، بعضهم من زوجات سلطانات، والبعض الآخر من زوجات عبدات، يصبح إقامة نظام وراثي عملية شبه مستحيلة. كل شُغور بالعرش يثير منافسة شرسة. فيلجأ شاه زاده، أبناء السلطان، الذين تولّوا على الدوام تقريبا أمر مقاطعات مهمة في حياة والدهم، إلى السلاح على الفور. بجانبهم، وعلى ذات المستوى من الجشع، يقف أطفال العشيقات والمحتالون على اختلافهم الذين يجدون دائمًا طريقة للإنتساب إلى قرابة ملتبسة مع السلطان المتوفى، بينما يحيك الصدر الأعظم والوزراء والخصيان والضباط الكبار والحريم في الكواليس شِباك مؤامراتهم.
في الأحوال العادية يستغرق الأمر عدة أشهر، وأحيانًا سنوات من الحرب الأهلية، حتى يتمكن السلطان الجديد من فرض سلطته في نهاية الأمر. لوضع حد لتلك الصراعات العائلية المرهقة، كان لا بد من علاج جذري. السلطان با يزيد الأول، الذي اعتلى العرش عام 1389 وانتهى أسيرًا لدى تيمورلنك، ظن أنه وجده: أول عمل قامت به حكومته كان خنق شقيقه يعقوب. بعد بضعة عقود، أضفى محمد الثاني على ذلك الفعل صفة الشرعية: أصبح قتل الأخ الملكي مِرفقا إمبراطوريا، تم تبريره ليس فقط لاعتبار المصلحة العامة ولكن على أساس مبدأ قرآني اكتشف في حينه. بصفته رجلاً مخلصًا لمبادئه، لم يتأخر محمد الثاني، الذي خلف والده بشكل منتظم في العام 1444، في إصدار أمر بإغراق أخيه الصغير، الذي كان يبلغ من العمر بضعة أشهر فقط. منذ ذلك الحين، راح كل حكم جديد برتكب مجازر لم يسمع بمثلها من قبل: كان الشغل الشاغل للسلطان، فور اعتلائه العرش، عزل نفسه عن الناس. ولمزيد من الحيطة والحذر، لم يعد يكتفي بإرسال إخوته للموت، بل كان يأمر أيضا بإعدام جميع زوجات والده، في حال تركهن هذا الأخير حوامل قبل وفاته، حتى أنه لم يدخر جهدا لتصفية أخواته السلطانات اللواتي كان يُخُنق جميع أولادهن الذكور بلا رحمة فور ولادتهم.
في العام 1596، قتل السلطان محمد الثاني إخوته التسعة عشر وأمر بإغراق عشرة من زوجات والده. لكن الضحايا لا يسمحون دائمًا بأن يُقدَّموا قربانا دون مقاومة. ففي العام 1481، على سبيل المثال، عندما توفي محمد الثاني، فاتح القسطنطينية، في معسكر سكوتاري على اثر إصابته بنوبة النِّقرس المفصِلي، بدأ إبناه بايزيد وجيم سلطان فورًا النزاع على الحُكم. في هذا الوقت ظهر الإنكشاريون على المسرح، دافعين بقوّة مخططات الوزير الأعظم، الموالي لجيم، وفارضين بالسلاح مرشحهم بايزيد الثاني. وإذ أستغلّوا هذه الظروف طالبوا بزيادة الراتب الذي لا يمكن بالطبع تجاهله. أحسّ السلطان الجديد بأنه بات تحت رحمة جيشه. في الواقع، تحديدًا في 25 نيسان 1512، كان على بايزيد الثاني، الهرم والمريض، أن يواجه انقلابًا جديدًا من قبل الإنكشاريين المتمردين في القسطنطينية والمدعومين من السكان. فتنازل لصالح ابنه سليم، الذي أبدى له عرفان الفضل بتسميمه قليلا بعد ذلك.
عثمان الثاني يأمر يرمي المدخنين في الماء: انتفاضة عسكرية في القسطنطينية
على مدى القرن السادس عشر، استمرت قوة الإنكشارية في النمو. كان عددهم 12000 فقط في زمن محمد الثاني، ولم يمضِ إلاّ قليل حتى أصبحوا 200000. في عام 1622، حين كان ريشيليو، في فرنسا، يُعد العدّة لإطلاق عمله العظيم في تثبيت السلطة الملكية نهائيا، كان السلطان الشاب عثمان الثاني يحكم الباب العالي. كان في الثالثة عشرة عندما استلم الحكم. لكن هذا الطفل سرعان ما أظهر نضجا مبكّرا: طلب على الفور من العلماء، تلك المراجع القرآنية العليا، إصدار فتوى، تخوّله أن يقتل شقيقه محمود. تشجّع مفتي القسطنطينية وردّ عليه بقوله ان الأسرة الإمبراطورية ليست، في الوقت الحالي، كبيرة إلى درجة يسمح معها على هذا النحو بالتضحية بحياة أحد أفرادها العظيم الشأن. تجاهل عثمان ذلك، وتخلص من أخيه، لكنه استاء من العلماء. عندها راح يعمل على تحويل الأنظار فهاجم بولونيا، إلاّ أن الأتراك، خلال تلك الحملة، منيوا بهزيمة ماحقة. وانفضح أمر المعارضة.
في الجيش، اتُهم السلطان علانية بالمسؤولية عن الإخفاقات العسكرية الأخيرة. من جهتهم استاء أهالي القسطنطينية، من تدابير الشرطة المقلقة التي فُرضت على المدينة. كان عثمان إنسانا ظالما، خاضعا بالكامل لامرأة من حريمه، صِنفا من الشباب أكثر فأكثر تجهّما وتكدّرا. فقد عكّرت الحملة البولونية مزاجه وراح ينجرف وراء الأهواء الأشد غرابة وعبثية. في الليل، وبرفقة باشا، كان يتجول في شوارع المدينة، ويتفقد بنفسه، مثل شرطي بسيط، الخمّارات والمقاهي الباذخة، ويأمر برمي الزبائن من المدخنين الى الماء والسَّكّيرين في سجون الأشغال الشاقة. كذلك كان يلقى في الماء العديد من الإنكشاريين الذين يقبض عليهم وهم يسكرون أثناء دورية ليلية. فتتأثر فرقة النخبة بأكملها من الإهانة: لم يكن عثمان محبوبًا بين الإنكشاريين. كان يؤخذ عليه خاصة بُخلُه. فقد قام أثناء العمليات العسكرية في بولونيا، بتخفيض المكافأة الممنوحة تقليديًا لقاء كل رأس عدو يجري تقديمه؛ كما أجاز لنفسه توجيه الإهانات الخطيرة الى السِّيبويين (السيباهيين)البواسل، السپاهي جندي تابع لفرقة مكوّنة من أبناء خيرة العائلات التركية.
فجأة، مع بداية ربيع 1622، أثار هَياج كبير العسكر. فقد علم الساعة أن السلطان يستعد لبدء مناسك الحج إلى مكة. الخبر في حد ذاته لم ينذر بالخطر. إلاّ أنه كان ينظر إليه على أنه مجرّد خدعة؛ فقد راجت إشاعات ثابتة تفيد بأن عثمان الثاني ذاهب إلى الشرق بنيّة تجنيد مرتزقة مصريين وسوريين ليحلوا محل الإنكشاريين والسيباهيين.
بعد تأخير طال أمده بسبب الرياح المتضادة، تم في النهاية الإعلان عن رحيل السلطان في 17 أيار. في المساء عينه، اجتمع الإنكشاريون والسيباهيون في ثكناتهم الجديدة. مر الليل في اجتماعات محمومة: كثر الحديث عن إصلاح مقبل داخل الجيش، تكون فيه وحدات النخبة السابقة أول من يدفع الثمن. يجب التحرك، فاتخذ قرار على عجل بإرسال وفد إلى المفتي الأكبر شيخ الإسلام أسعد للحصول على فتوى ضد الوزراء المطالبين بإصلاحات.
سأل الإنكشاريون: “هل مسموح ومشروع إعدام أولئك الذين يحثّون الباديشا (السلطان) على إجراء تغييرات؟” . أجاب المفتي بالإيجاب. فانضمت السلطات الدينية إلى الحركة. وبضمير مرتاح، شرع الإنكشاريون إذن في الإعداد للانقلاب.
مع ذلك، مر يوم 18 أيار وليلة 18 الى 19 منه في جو من القلق والريب. ولازم الإنكشاريون والسيباهيون ثكناتهم بينما أشيع أن قوات أخرى ظلت موالية كانوا يتجمعون في السراي حيث أمر السلطان بتوزيع السلاح عليهم.
في صباح 19 أيار إنطلق الإنكشاريون بعد أداء الصلاة. نقطة تجمعهم ساحة الميدان أو مضمار الخيل. هناك التقوا اثني عشر ممثلاً ل العلماء الذين يحتاجون إلى دعمهم لإطلاق شرارة الإنقلاب. فعلماء المسلمين مدعوون لإصدار فتوى جديدة تجيز للإنكشاريين الإطاحة بستة من وزراء السلطان. بعد مناقشة استغرقت بضع لحظات، إنتهى العلماء إلى إصدار الفتوى؛ حتى أنهم أخذوا على عاتقهم مطالبة عثمان الثاني شخصياً بالرؤوس الستة.
“فلنعيّن الأكثر بلاهة …”
إستقبلهم السلطان، لكنه لم يُبدِ قط أي استعداد لإجراءات التهدئة. عبثًا صوّر له مخاطبوه شغب الإنكشاريين:
̶ لا تقلقوا، أجاب عثمان، لا يوجد هنا سوى حفنة من الأوغاد بلا قوّاد، سينفرط عقدهم لأول وهلة!
يذكر العلماء أنه أصبح نوعًا من التقليد في الدولة العثمانية تسليم الوزراء عندما يطلبهم الإنكشاريون الأقوياء. رفض عثمان ذلك رفضا قاطعا. ولمّا أصرّ العلماء على موقفهم، أسكتهم مهددا إياهم بإعدامهم على الفور، كمتمردين.
بينما كانت تلك المقابلة جارية في السراي، أخذ التوتر منحى تصاعديًا في حلَبة ركوب الخيل، حيث الإنكشاريون. وبما أن العلماء لم يعودوا، فُهم أن المقترحات قد رفضها السلطان. فارتفعت الصيحات والتهديدات والدعوات إلى السلاح. وفجأة إندفعت جمهرة إلى الشارع، وراحوا يسلبون وينهبون التَرسانة (دار الأسلحة) وهجموا على القصر السلطاني. وانضم الرَعاع الى الإنكشاريين.
خلع أول باب للسراي دون صعوبة، ثم الثاني. مع الثالث ̶ باب السعادة ̶ هرب حرس الخصيان البيض بمجرد ظهور المهاجمين. ودوّى صوت:
̶ نريد السلطان مصطفى!
ردّد الجمهور بأسره تلك الصرخة. مصطفى هذا كان أميرًا للعائلة السلطانية، أبلهًا مِسكينًا مسالمًا، أكسبه غباؤه سمعة القداسة بين الناس. فقد كان على مدى أربعة عشر عامًا أسير قصر الحريم.
جرى البحث عن مصطفى عَبر حدائق السراي. وتابع المتظاهرون الصراخ مطالبين بهذا المنقذ غير المتوقع. فجأة سمُعت صرخة خافتة:
̶ السلطان مصطفى هنا!
بما أن المبنى الذي جاءت منه تلك الكلمات ليس له باب من الخارج، تسلّق المتظاهرون على القبة. كسروا السقف. فأطلق حارسا السجين، وهما من الخصيان السود، النار على المهاجمين لكنهما أُرديا قتيلين برصاص الإنكشاريين. بعد ذلك دلَف أحد المشاغبين، بحبل مصنوع من ستائر قُطّعت في قاعة المجلس الأعلى، إلى الداخل. مصطفى ههنا، على مَرتبة قديمة، بجانبه عبدان. قال له المشاغب ساجدًا:
̶ سيّدي الباديشا، الجيش ينتظرك في الخارج.
لكن مصطفى لم يكن عنده سوى جواب واحد:
̶ أنا عطشان.
تُرك المبتلى بدون طعام وشراب طوال ثلاثة أيام. جيء بجِراب فيه ماء إلى مصطفى الذي شُدّ إلى أعلى السقف وحُمل إلى الفناء. أُحضر جواد المفتي ليكون مطيّة له. لكن مصطفى أضعف من أن يستقر على متن السرج، ويبقى على المشاغبين حمله إلى قاعة العرش، فضلا عن أن ذلك لم يكن يجري من دون مقاومة، إذ أن السلطان الجديد لم يستوعب ما يحدث له، فيرى سيوف الإنكشاريين المسلولة، يترجرج مثل ورقة الشجر ويعتقد أن ساعته قد دنت.
الجمهور المهلِّل يخلع حمّالة السلطان الجديد وجاريتيه
بدأ عثمان يدرك خطورة الموقف. هل لا زالت فرصة تهدئة الهِياج الشعبي متاحة أمامه؟ لم يمضِ إلاّ قليل حتى انفتح باب الحريم المحاصر من الحشد: دُفع بالصدر الأعظم وبشخصية أخرى في البلاط، من بين الأكثر مَقتًا خارجًا؛ وانغلق الباب على الفور.
رضخ السلطان للتضحية بوزرائه. وفي غمضة عين كانت الضحيتان المكفَّرتان (الفِديتان) قد تمزّقتا إرْبًا إرْبًا، لكن هذه المذبحة أثارت ثائرة المشاغبين أكثر فأكثر، بدلاً من أن تهدّئ خاطرهم. فلقد ولّى زمن التساهل.
في قاعة العرش، تبع ذلك مناقشة حامية بين الضباط الإنكشاريين والعلماء. كان الجيش يودّ الإعتراف بمصطفى على الفور سلطانًا جديدا. أما العلماء فصاحوا قائلين: “هذا غير شرعي ما دام السلطان عثمان على العرش”. ولسدّ باب المناقشة، إستلّ أحد الإنكشاريين سيفه وراح يلوّح به فوق رؤوس رجال الدين: فسقط أحدهم على الأرض مغمى عليه. عندها سارع رفقاؤه في الإعتراف بمصطفى. على الفور، ومن أعلى المآذن، أعلن صوت علماء المسلمين المجيء السعيد. جلس مصطفى على حمّالة مع مملوك وجاريتين. وبينما كان الجمهور المبتهج ممسكا بالنقّالة لإحضار السلطان الجديد إلى السراي القديم، توارى العلماء المتعَبون والمنفعلون سرًّا، عائدين إلى منازلهم.
ما زال عثمان يجهل ما حدث الساعة. من جهة أخرى يبدو أن المتمردين المرتعبين يترددون في فتح أبواب مسكنه بالقوة. إستمر السلطان المخلوع طوال فترة ما بعد ظهر يوم 19 أيار عمليا في رسم خطط المقاومة، بمعية قائد الإنكشاريين الذي لم يشأ المشاركة في تمرد مرؤوسيه، وفاء منه للسلطان.
كانت الفوضى سائدة في المدينة. ذهب المتمردون لتحرير أسرى سجن بداد جعفر وكذلك العبيد المقيّدين بالسلاسل في الترسانة وسجون الأشغال الشاقة. كل حثالات الناس تلك إنتشرت في الشوارع، متلهفة للمجازر والنهب. في هذا الجو، من غير المحتمل قبول المقترحات التي سينقاد عثمان لعرضها على الإنكشاريين: لكل منهم يقدّم خمسين دوكا (نقد ذهبي) وقسيمة من القماش القِرمزي لخياطة ثوب جديد؛ من جهتهم يحصل السيباهيون على عشر وحدات من العملة الفضية علاوة على الأجور. بالنسبة لعثمان الشديد البخل، يعتبر ذلك بلا شك تضحية كبيرة. لكن في اليوم التالي، الجمعة 20 أيار، عندما حضر رسوله أمام الإنكشاريين، لم يُسمح له حتى التفوّه بكلمة. فأُلقي به من أعلى سُلّم الثكنة، وديس عليه بالأَقدام، وشُنِق دون محاكمة، وظلت أجزاء من جسده معروضة عند مفترق طرق ألسراي.
سلطان في الثامنة عشرة لم يُرِد أن يموت
قرر بعض المتمردين التعجيل بالنتيجة. فذهبوا إلى السراي، حيث وجدوا عثمان مختبئًا، مغطى فقط بلباس داخلي، بلا عِمامة، معتمرًا قلنسوة بسيطة. أمسك به سباهي، ألبسه طاقية متّسخة، سحبه بعيدًا وألقى به على ظهر مُهرة عجوز، بينما كان يدوّي عبر القصر ولولة آخر الوزراء الذين يجري قتلهم. في الشوارع المزدحمة بالحشود الذين يضحكون عليه ويشتمونه ويغرقونه بالبصاق والصفَعات، جُرَّ عثمان جرًّا إلى ثكنات الإنكشاريين. وبإصرار وحزم راح المؤذّنون يدعون للصلاة: كان الوقت ظهرًا. لكن كثيرين تصوروا أن ذلك كان بالفعل الإعلان عن إعدام عثمان.
ومع ذلك كان لا يزال حيا. من سجنه في الثكنة راح يُغدق الوعود وبلهجة توسل حارّة، طلب الرحمة من الإنكشاريين. من جهة أخرى فإن خليفته، مصطفى الأبله، الذي ينتظر في الوقت عينه تكريسه عند قاعدة محراب الجامع الكبير، لم يكن أقل خوفًا. وإذ كان جالسا بين اثنين من العبيد، أخذ يكرر بهلع وارتباك أن كل هذا أشبه بملهاة مشؤومة وأنهم ينوون له الشر. كلما زاد صخب الحشود في الخارج، يندفع نحو النافذة فيتمسك بقضبان الحديد طالبًا المساعدة.
ثم ان الصدر الأعظم الجديد، صهر وعشيق والدة مصطفى قد حضر إلى ثكنة الإنكشاريين برفقة الجلاد. ذهب إلى عثمان. بحركة سريعة قام الجلاد بإلقاء وَهْقه (الوهَق حبل ذو أنشوطة لاقتناص الخيول البرية والأبقار المتوحشة) إلى حلق السجين. لكن عثمان، الشاب والنشيط، أمسك بالعُلاّقة وردّها عن رقبته. أشار الصدر الأعظم إلى الجلاد ثانية لرمي الوهق؛ هذه المرة تدخّل الإنكشاريون. مرّت ساعات، ثقيلة ومترددة. وفي وقت متأخر من بعد الظهر، عندما لم يتبق سوى عدد قليل من الرجال لحراسة السلطان المخلوع، عاد الصدر الأعظم برفقة كياجا عمر وضابط الشرطة والجلاد وأخذوا عثمان إلى قلعة الأبراج السبعة. واندفع الجمهور، الذي أبى أن يفوّت عليه المشهد الأخير، إلى الشارع.
على أن كل شيء قد حدث بتكتم شديد. عندما أغلقت بوابات السجن المركزي وتفرق الجمع، قرر كبار المسؤولين تنفيذ الإعدام بأنفسهم. لم يكن الأمر سهلا. وبطاقة يائسة قاوم عثمان مهاجميه فترة طويلة. أخيرًا، بينما كان رجلان يمسكانه خلف ظهره، وضابط الشرطة، كالندر أوغري، يوجه ضرباته على الناحية الحساسة من جسمه، تمكن الجلاد من وضع الأُنشوطة حول رقبته. ثم قطعت أذن من الجثة لإرسالها كعلامة إلى والدة السلطان مصطفى.
دُعابات قديمة أم “أولاد النبي الأحبّاء
لأول مرة في التاريخ التركي، يتم اغتيال سلطان على يد أتباعه. ويكتسب موت عثمان الثاني مساء 20 أيار 1622 قيمة علامة العصر. وبينما أخذت إدارة الشؤون تنتقل من الآن فصاعدًا إلى “سُلالات حاكمة” ينحدر منها الصدر الأعظم مثل أسرة كيوبرولو (الألبانية) التي ستحكم تركيا على مدى خمس سلطنات متتالية، فإن الإنكشاريين هم الذين يختارون صاحب العرش على النحو الذي يرونه مناسبًا. فلم يكد يمضي عام على سلفه حتى لقي مصطفى المسكين المصير عينه، وقبل نهاية القرن، تم خلع ثلاثة سلاطين آخرين بثورات عسكرية.
بات الإنكشاريون لا يطاقون. هل لديهم ما يشكون منه أو تهديد يريدون تنفيذه؟ حتى إنهم لا يتفضّلون بأن يرسلوا وفدا إلى السراي ويكتفون بإشعال النار في حيِّ أو أخر من المدينة، تقليد يلزم السلطان أو على الأقل صدره الأعظم بالذهاب شخصيًا إلى موقع الكارثة. لكن الزمن قد ولّى عندما كان الإنكشاريون هم القوة الصدامية للغزو العثماني التي لا تُقهر. لم تكن “المسألة الشرقية” قد طرحت بعد، ولم تصبح تركيا بعد “رجل أوروبا المريض”، ولكن منذ الهزيمة الماحقة التي ألحقها بها الأمير أوجين في سهل زنتا (تقع اليوم في صربيا)، عام 1697، إقتصرت عمليات قوات السلطان على حالة الدفاع.
من جهة أخرى شهد تجنيد الإنكشاريين خلال القرن السابع عشر، تحولات كبيرة. فقد أجيز للأتراك الأصليين الإنتساب إلى ذلك الفيلق، الذي حظي بجاذبية تأثير هائلة من خلال المكافآت والامتيازات والتعويضات على العمل التي كان يحصل عليها على الدوام أو حققها بالقوة. في تلك الأثناء كان يكفي، لكي يصبح أحدهم إنكشاريا، دفع رسوم معينة وتأدية الخدمة العسكرية في أوقات الحرب ̶ لكن من الناحية العملية، توقّف نهائيا تقريبا إرسال الإنكشاريين في مهمات قتالية. بالمقابل تمتع المحظوظون بإعفاءات وراثية من جميع الضرائب والرسوم على أنواعها، دون أن يفقدوا حقهم في الاستمرار بممارسة مهنتهم.
هناك فئتان من الإنكشاريين: من ناحية، الإنكشاريون العاملون، حوالي عشرين إلى خمسة وعشرين ألفًا، المنظمون والملازمون ثُكناتهم في القسطنطينية والمدن الكبرى، ومن ناحية أخرى، الجَمك أو الإنكشاريون في الاحتياط، المستمرون في التفرّغ لمشاغلهم المدنية والموزَّعون، من ثلاث إلى أربعمائة ألف في جميع أنحاء السلطنة.
تشتمل مهنة الإنكشاري على منافع كثيرة، لكن مهنة ضابط إنكشاري كانت أكثر إثمارًا. كانت تتيح له، على سبيل المثال، جمع ثروة صغيرة من خلال المضاربة ببطاقات رواتب العسكريين ̶ وهي عملية تقتضي ترك عدد الوحدات بقصد غير مكتمل مع الاستفادة من المخصصات التي تدفعها الدولة للجنود الغائبين.
قياديّ بلا اعتراف بأخطائه، نهِم جشع وصاخب، تلك كانت صورة الإنكشاري، ومع ذلك حافظ على كل غطرسته. بدأت تركيا تمَلّ عجرفة تلك الطغمة العسكرية التي تتباهى دائمًا بكفاءة الأسلحة التي ترقى جميعها تقريبًا إلى عدة قرون:
̶ نساء عجوزات، يتكلمن دائمًا عن جمالهن الماضي ولا تُرجى منهن فائدة! قالها أحد الباشاوات.
العلماء أنفسهم، الذين كانوا حتى ذلك الحين، الأنصار الأوفياء للانكشاريين، يبررون ثوراتهم واصفين إياهم ب”أولاد النبي الأحباء”، بدأوا يقلقون من الفوضى التي غرقت فيها الدولة العثمانية. في بداية القرن التاسع عشر، شارك جميع الأتراك تقريبًا هذا الرأي الذي عبر عنه أحد مؤرخيهم بأسلوبه المجازي:
الإنكشاريون، تلك الجياد الجموحة، المتوثبون بحرية في مراعي الفوضى، كانوا يعتبرون أنفسهم ملوك البلاد، قد أبقوا النار تحت قِدر العصيان ويمسكون بخِناق الطاعة. (أسعد أفندي، قصة تدمير الإنكشاريين).
دعوة الإنكشاريين إلى مراعاة النظام أمر صعب
بيد أن مهاجمة الإنكشاريين كانت لعبة خطرة. ذلك أن شلَّ يدهم يتطلب على الأقلّ إنقلابا ملَكيا حقيقيا. هذا ما حاوله سليم الثالث، لكنه دفع ثمنا غاليا: إنقضّ الإنكشاريون عليه وخلعوه بعد ان استولوا على ترسانة القسطنطينية؛ فقُتل في تموز 1808، وألقي بجثته من فوق أسوار السراي.
تلك المغامرة لم تثبط عزيمة خليفته محمود الثاني. فحوالي العام 1825، أصبح إعادة الإنكشاريين إلى الصواب، بالنسبة لتركيا، مسألة حياة أو موت. فسلسلة الإخفاقات التي مني بها أخيرا في إبيروس، في اليونان ومصر أجبرت السلطان على تحديث جيشه دونما إبطاء. ثم ان عدوه القديم، محمد علي، قد أعطاه المثل: ففي العام 1811، تخلص باشا مصر من عسكره، المماليك، بمذبحة عامة عرفت بمذبحة القلعة.
في 28 أيار 1826، ترك حدث مثير أثرًا عميقا في ثكنات القسطنطينية. بموجب قانونين جديدين، وضع السلطان الأسس لإصلاح شامل في الإدارة العسكرية، وأمر بإنشاء فيلق جديد من الجنود، الإشكنجيين (أي الجند المتأهبون للقتال) الذي تم تجهيزه وتدريبه بالكامل حسب القُدوة الأوروبية.
في أوقات أخرى، كانت مثل هذه الأخبار كافية لجعل الإنكشاريين يهرعون للسلاح والزج به في الشوارع للدفاع عن التقاليد وعن امتيازاتهم في آن. أمّا اليوم، وقد فقدوا الثقة بأنفسهم، حيث باتوا يشعرون بأنهم غير مستحبّين، ويرون العلماء يدعمون القرارات الملكية، فيتظاهرون، بانتظار الفرصة المؤاتية، بأن يقوموا، بطيبة خاطر، بإصلاحات مكروهة إلى هذا الحدّ.
لم يكد يمضي عشرة أيام على نشر المراسيم، حتى بدأ التسجيل في قوات الإشكنجيين الجديدة. في 14 تموز 1826، أثناء استعراض عسكري كبير في ساحة ميدان الخيل، حضر السلطان محمود أول ساعة تدريب على الأسلحة حسب النموذج الأوروبي بإشراف أربعة مدربين مصريين. ماذا حدث بالضبط؟ هل فعلاً أصاب مدرب مصري جنديًا تركيًا أثناء المناورة؟ هذا ما ادعاه الإنكشاريون. وقد سُمعوا وهم يحتجون على انتهاك الكرامة الوطنية. في الليلة التالية، تجمع رجال وضباط تابعون للقوات الإنكشارية في ساحة ميدان الخيل، قلبوا طناجرهم بقرقعة كبيرة رمزًا للثورة، أنتخبوا قادة لهم وراحوا ينهبون منزل جنرالهم الذي كان نصيرًا متحمسا للإصلاحات.
في اليوم التالي استيقظت المدينة خائفة: أُشيع بأن العديد من كبار المسؤولين قد جرى اغتيالهم أو أسرهم من قبل المتمردين؛ أن قصر الصدر الأعظم وسفارة باشا مصر قد نهبا؛ وأن عصابة من المجرمين العاديين قد انضمت إلى الفتنة.
لكن، هذه المرة، لم يفقد الحكم رباطة جأشه. وبينما انتشر الإنكشاريون في الشوارع مطالبين بالموت لأصحاب المراسيم، غادر الصدر الأعظم، الذي أُخطر بأحداث الليل، منزله الريفي وأبلغ السلطان. وبأمر منه، وضع حسين باشا، قائد تحصينات البوسفور، وقادة موالون آخرون قواتهم في حالة تأهب قصوى. بالنظر إلى هذا التشدد، سارع كبار الشخصيات والسلطات الدينية والنخب إلى السراي لإظهار ولائهم. وتلبية لدعوة من المفتي إستند العلماء والفقهاء وأساتذة وطلاب المدارس الدينية إلى كافة تعاليم القرآن لمعاقبة ذلك التمرد الذي سبق أن وافقوا عليه مرات عدة في الماضي، باسم المبادئ عيتها.
مطاردة في القسطنطينية: من 20.000 إلى 40.000 ضحية
لم يمضِ إلاّ قليل حتى أخذ جهاز الأمن موقعه. وصل السلطان محمود على صهوة حصان، رافعا راية النبي المقدسة. وبأمر منه، بدأوا بتوزيع الأسلحة على السكان. وضع حسين باشا نفسه على رأس العسكر وسط هتافات الجميع المتكررة: “الله! الله!” وذهب مع السلطان إلى مسجد السلطان أحمد؛ رفع المفتي علم النبي على القبة.
كان الإنكشاريون قد تحصنوا بالقرب من ثكناتهم، في ميدان سباق الخيل. هناك كانوا محاصرين. وُجّهت إليهم الإخطارات المعتادة، ولكن دون جدوى. عند ذلك بان بعض الحَيرة في صفوف القوات الموالية: عندما وجب إطلاق النار على رفاقهم السابقين، تردد الجنود. رجل حسم الموقف، ضابط إسمه مُعدّ سلَفًا، كارا جهنم، أي جهنم السوداء: هو الذي وجه طلقة المدفع الأولى. تم تحطيم البوابة الرئيسة من بين الأبواب التي تغلق الساحة. على الفور بدأت المجزرة: الإنكشاريون، الذين كانوا في الميدان في صفوف متراصّة، حُصدوا بالرصاص أو سحقوا بقذائف المدفعية. كما انهمرت القنابل على الثكنات التي لجأ إليها البعض، وسرعان ما اشتعلت فيها النيران: ثمانية آلاف متمرد لقوا حتفهم في الحرائق. في تلك الأثناء، وعلى طول شوارع القسطنطينية، بدأت مطاردة دموية استمرت عدة أيام: تم ذبح كل إنكشاري سقط في أيدي الحشد دون محاكمة وألقي بجثته في البحر. عمليات مماثلة جرت بعد ذلك في مدن صغيرة، لكن في العاصمة وحدها، أشارت التقديرات إلى أن القمع قد أودى بحياة ما بين عشرين وأربعين ألف ضحية، لقوا مصرعهم أثناء القتال، أو عوقبوا معافبة فظيعة بلا صفة ولا قانون أو أُعدموا على يد الرَّعاع بلا محاكمة.
منذ 17 تموز، صدر مرسوم من السلطان محمود بحل فيلق الإنكشاريين. فطوِيت الصفحة على العصور الوسطى التركية، إنما بتأخر دام ثلاثة قرون. ولم تعش سلالة العثمانيين أطول من قرن بعد التخلص من قوات النخبة التي يختصر مصيرها كل عظمة وبؤس أمبراطورية.