حدّث المسيح تلاميذه بأمثال كي يسهّل عليهم إدراك بشارته ورسالته. ومن هذه الأمثال مثل “الابن الضالّ”. عن الإنجيليّ لوقا أنّ المسيح حدّث تلاميذه قائلاً: كان لرجلٍ ابنان. طلب الابن الأصغر من أبيه أن يعطيه حصّته من الميراث. فكان له من أبيه ما طلبه منه. وما لبث الابن الأصغر أن سافر وبدّد أمواله “في الخلاعة”. لكنّه ما إن ثاب إلى نفسه حتّى عاد إلى أبيه تائبًا. فاستقبله أبوه أحسن استقبال وأعاده إلى حضنه مكرَّمًا. غير أنّ الابن الأكبر لم يكن راضيًا، بسبب اعتقاده أنّه أفضل من أخيه، عن موقف أبيه إزاء الابن الأصغر (لوقا 15، 11-32).
هذا الابن الأصغر استحق أن يُسبغ عليه لقب “الابن الضال”، لكنّه أيضًا مثال المؤمن الذي كان ضالاًّ فتاب إلى الله. وقد رأى التراث الكنسيّ في هذه القصّة الرمزيّة الله في صورة الأب، والإنسان بعامّة في صورة الابن الضالّ أو في صورة الابن المتكبّر أو في صورة الاثنين معًا بالتواتر ووفق المناسبات ومقتضياتها.
اللافت في القصّة أنّ الابن الأصغر طلب حصّـته من الميراث قبل موت أبيه. وهذا الأمر ليس من النوافل، بل قد يشير إلى أنّ الابن الأصغر قد اعتبر، بطلبه الميراث قبل الأوان، أنّ أباه قد مات. إنّه بالأحرى قد استعجل موت أبيه أو تمنّاه من كلّ قلبه، أو أيضًا كأنّه قتل أباه إذ لم يجد فيه إلاّ ما يملكه من مال. وفي هذا يقول بطرس خريسولوغوس أسقف رافينّا (+450): “خان الصبر الابن الاصغر… ولأنّه كان عاجزًا عن تقصير حياة أبيه، ولم يسعه أن ينتظر موت أبيه للحصول على الثروة، فقد عمل على اقتطاع حصّته من الإرث”.
الإنسان، من دون استثناء أحد، وبمقادير متفاوتة، له وجه من وجوه “الابن الضال”. الابن الضالّ شاء وراثة أبيه قبل وفاته، والإنسان يتصرّف في هذا الكون كأنّ الله قد مات، فيرثه ظانًّا أنّه إله لن يموت. الابن الضالّ رفض أن يحيا مع أبيه، رفض محبّة أبيه، فضّل محبّة المال على محبّة أبيه، هكذا الإنسان لا تعني له شيئًا وصيّة المسيح “لا تقدرون أن تعبدوا ربّين: الله والمال” (متّى 6، 24)، فضّل محبّة المال، أي مصدر السلطة، وعبادته على محبّة الله.
لكن أكثر مَن تلبسهم صورة الابن الضالّ هم أولئك المتديّنون الذين نصّبوا أنفسهم، منذ الآن، قضاةً في الناس، وديّانين يحكمون بالإيمان وبالكفر. هم أيضًا أولئك الذين تبوّؤوا كراسي الحكم يقتّلون الناس كأنّ ليس لله أن يستوفي الأنفس حين أجلها، بل هم الذين بيدهم سلطان الموت والحياة. يظنّون أنّهم ورثوا الله. غير أنّ الله لا يموت، هكذا يقولون هم أيضًا، لكنّهم يتصرّفون كأنّ الله قد مات وورثوا عرشه وقضاءه. خطيئتهم أنّهم يظنّون أنّهم قادرون، بقواهم الذاتيّة، أن يرثوا ما لله، لا أن يرثوا معه.
قصّة “الابن الضال” الإنجيليّة تنتهي بتوبته وعودته إلى أبيه، وما التوبة، لغةً، سوى العودة. الأب استقبل ابنه الضال فاتحًا ذراعيه، بعد أن قال له: “يا أبتِ، إنّي خطئت إلى السماء وإليك، ولست أهلاً أن أدعى لك ابنًا”. لكنّ الأب بواسع محبّته قبل توبة ابنه، فقال: “إنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاًّ فوُجد”. هكذا الله ينتظر بلهفة الأب عودة كلّ إنسان تائبًا إليه، مقرًّا بذنوبه… سوى ذلك سوف يظنّ الميت نفسه حيًّا، والضالّ هاديًا. لكن شتّان ما بين الظنّ والحقيقة التي ستُرى بأمّ العين.
الأب جورج مسّوح
ليبانون فايلز