اقامت جامعة الروح القدس – الكسليك احتفالها السنوي بعيد شفيعها، تخلله قداس ترأسه الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الرئيس الأعلى للجامعة الأب العام نعمة الله الهاشم، عاونه رئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة ورئيس دير الروح القدس الأب جورج قزي، بمشاركة راعي أبرشية صربا المارونية المطران بولس روحانا والنائب العام للرهبانية اللبنانية المارونية الأب كرم رزق، والآباء المدبرين: هادي محفوظ، جوزيف قمر وطوني فخري، وأمين السر العام للرهبانية الأب ميشال أبوطقة وآباء دير الروح القدس، في حضور وزير العدل ألبرت سرحان، والنواب: نعمة افرام، شوقي الدكاش وروجيه عازار، رئيس الرابطة المارونية النائب السابق نعمة الله أبي نصر، رئيس مجلس أمناء الجامعة الدكتور جورج الترس وأعضاء مجلسي أمناء وأعضاء الجامعة، ومديرين عامين وسفراء وقضاة ورؤساء وممثلي جامعات وفاعليات سياسية وعسكرية ودبلوماسية ودينية واعلامية وأعضاء الهيئة التعليمية والإدارية والأصدقاء.
وبعد القداس الذي خدمته جوقة الجامعة بقيادة عميد كلية الموسيقى الأب بديع الحاج، جرى عرض وثائقيين سلطا الضوء على نشاطات الجامعة وانجازاتها خلال العام المنصرم، وتضمنا شهادات حية لبعض الطلاب المتميزين.
حبيقة
ثم ألقى الأب البروفسور جورج حبيقة خطابه السنوي بعنوان: “الروحانية بحث عن المعنى”، استهله بالقول: “يسرني، عشية عيد العنصرة، أن أتوجه أولا بخالص الشكر للرئيس الأعلى لجامعة الروح القدس – الكسليك قدس الأب العام نعمة الله الهاشم السامي الاحترام، على سياسة التطوير المستدام التي ينتهجها بعزم وشجاعة لصالح جامعتنا، على الرغم من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة والحرجة التي يتخبط فيها لبنان. كما أود أن أتوجه بأحر الأمنيات وبخالص الشكر لأسرة جامعة الروح القدس – الكسليك الكبرى من رؤساء سابقين. وأخص بالذكر هنا الرئيسين السابقين للجامعة والعضوين الحاليين في مجلس المدبرين للرهبانية اللبنانية المارونية الأب البروفسور كرم رزق والأب البروفسور هادي محفوظ، إلى جانب نواب الرئيس ونواب الرئيس المفوضين ونائب الرئيس للشؤون الأكاديمية والعمداء ورؤساء الأقسام والأساتذة والباحثين والمساعدين وأمناء السر والموظفين”.
اضاف: “لا أبالغ في القول إننا نحتفل اليوم بعيدكم وبعيد طلابنا الأعزاء في إطار معادلة المربين والمتعلمين تحت جناح الروح. فكيف لا تعترينا الدهشة أمام تألق أسرتنا الجامعية في إنجازاتها على صعيد التصنيفات الدولية وسياسة التميز؟ تكاد تخذلني الكلمات للتعبير عن عميق امتناني لجسمنا التعليمي الموقر الذي يتفانى ليس فقط في نقل معرفة علمية متينة ومتجردة وموثقة ومحدثة باستمرار، ولكن أيضا في تنشئة الإنسان المتعدد الأبعاد. وإنني لواثق من أن تضحياتكم ستكون بمثابة الزرع الذي يؤسس لمستقبل جامعي أكثر إشراقا. وكذلك، اسمحوا لي أن أعبر عن امتناني وتحياتي الأخوية لجميع الأصدقاء الحاضرين بيننا اليوم. إن دعمكم المعنوي المستمر ومشاركتكم في عيد جامعتنا يضاعفان فرحنا ويرسخان حماسنا الأكاديمي”.
وتابع: “تبرِز المقاربة الفلسفية واللاهوتية للجوهر الإنساني حقيقة واضحة، ألا وهي أن الإنسان متعدد الأبعاد، حيث يعتبر العنصر الروحي عنصرا سائدا يضفي لونا خاصا على تناغمات الكائن البشري بمختلف أشكالها… الحياة ههنا ينظر إليها على أنها عبور أو ترحال نحو نمط مختلف من الوجود. فالحياة الروحية تضخ في يومياتنا، السعيدة منها والمأساوية، مضامين وجودية تتجاوز الزمان والمكان وتضع الإنسان في تماس مباشر مع مصير يتخطى منظومة العالم المحسوس”.
وأشار إلى أن “عبارة “الروحانية” باتت تحمل في طياتها دلالات متنوعة ومتناقضة، وخصوصا ابتداء من عصر الأنوار. على سبيل المثال، وفي إطار مشروعه لمجتمع جديد، يوصي الفيلسوف الألماني الماركسي إرنست بلوخ في كتابه الشهير “Das Prinzip Hoffnung” مبدأ الرجاء الصادر في مجلدات ثلاثة بين عامي 1954 و1957، بنقل الكنوز الضخمة المخزنة في الأديان، وخصوصا في المسيحية، والتي يعتبرها بلوخ آنية لأسمى أشكال الإيطوبيا، إلى فكر علماني يبشر بملكوت سماوي بدون الله… والمسيح الجديد المنتظر يرتد إلى مجرد مخلص اقتصادي وسياسي. لكن يبقى أن الروحانية المأخوذة في إطارها الديني الأساس… تعني الارتباط بـ”كائن أعلى” أزلي سابق لكل وجود، بـ”الله”، بما هو “إلهي”… وتشمل كل الممارسات الفكرية والسلوكية التي من شأنها تقريب الإنسان من هذا “الكائن الأسمى” الذي هو “روح” بطبعه وتضفي على أي علاقة بهذا الكائن بعدا روحيا محررا من جاذبية المادة التي تعتقل الإنسان في الأرضيات. هكذا، تضحي الصلاة والتأمل والإماتات والزهد والأعمال الخيرية والمغفرة والمصالحة والحب الشامل والسلام الداخلي والصرامة الأخلاقية “تقنيات” ملائمة، لا بل ضرورية لجعل حياة الإنسان مسيرة نحو الوجود الآخر”.
واقتبس الأب حبيقة في سياق كلمته “الخطاب الشهير الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون في 9 نيسان 2018 والذي أصر فيه على تصحيح المسار الخاطئ الذي اتخذته العلمانية في فرنسا، موضحا: أعتقد أن وظيفة العلمانية ليست بالتأكيد دحض الروحاني باسم ما هو زمني، ولا تفريغ مجتمعاتنا من الجذور المقدسة التي تروي عددا كبيرا من مواطنينا… بل أعتقد أن السياسة – وإن اعتبرها البعض مخيبة للآمال والبعض الآخر مجففة – تحتاج لحيوية الملتزمين، لحيويتكم ولحيوية الذين يضفون شيئا من المعنى على الأفعال ويحملونها شكلا من أشكال الرجاء…”، ويكمل الرئيس الفرنسي تحليله الدقيق، قائلا: “ليست الأزمة الاقتصادية وحدها ما يثقل كاهل بلادنا، بل هي أيضا النسبوية وحتى العدمية، أي الانجرار إلى القول إن ما من شيء يستحق كل هذا العناء. أي لا داعي للتعلم أو للعمل ولا حتى لمد اليد للآخر ولخدمة من هو أعلى منا مرتبة، حيث حبس النظام مواطنينا تدريجيا في دائرة التساؤل حول “الفائدة” من كل شيء”.
وأوضح أن “البعد الروحي في الطبيعة الإنسانية يتفتت شيئا فشيئا بفعل النظريات الداعية إلى الإلحاد والعدمية والتي تقلص بالتالي من تعددية الأبعاد الأصلية لدى الإنسان… بحيث تبلغ ثقافة العدم مستويات شديدة الخطورة تدفع بالإنسان إلى الغرق في العبث والحزن القاتمين”. وفي هذا الإطار عرض الأب حبيقة لأبحاث علمية وكتابات وحقائق تاريخية مفادها “أن الإيمان بالحياة الآخرة لدى المرضى المصابين بالسرطان في مراحل متقدمة يسمح بالحد بشكل واضح من القلق والإبقاء على الأمل في حياة مستقبلية أفضل من تلك التي يعيشونها في وادي الدموع هذا، وذلك مقارنة بالمرضى الملحدين الذين يعانون من آلام مبرحة يضاعفها خلو هذه الآلام من أي معنى على الإطلاق”. وذكر الأب حبيقة “تحديدا الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الذي ولد كاثوليكيا، لكنه كان من أتباع مذهب اللاأدرية خلال شبابه ليعود إثر صراع طويل مع مرض السرطان، وهو على شفير الموت، ويتصالح مع فكرة الحياة الأبدية والرجاء المسيحي فيذكر خلال دفنه تساؤل طرحه الرئيس الراحل قبل نحو سبع سنوات من وفاته: أوليس في الإنسان جزء من الأبدية؟”.
وأشار إلى أن “القحط الروحي من الناحية الدينية الذي يعصف في معظم أنحاء أوروبا يتعزز بفعل خضوع حياة الإنسان بأسرها للمنطق دون سواه على أنه السلطة الموثوقة الوحيدة التي تلغي كافة المراجع الأخرى على الرغم من أهميتها كعناصر مكونة لحقيقة الإنسان والمجتمع بتشعباتهما كافة…”.
واردف: “وعليه، كان لتفتت العنصر الديني تأثير مضر للغاية على حيوية المجتمع والحماس الأساسي لتجدد المجتمعات. فالإنسان الذي يصوره الكتاب المقدس على أنه المخلوق الأسمى على الأرض وصاحب الكرامة السميا بفعل خلقه على صورة الله ومثاله، تسقطه النظريات الإلحادية إلى مرتبة أي كائن حي آخر خرج من العدم بفعل التطور الذاتي للمادة وعاد إليه نتيجة الموت الحتمي… وفي مرحلة لاحقة، أضيفت إلى هذا الإرث الداعي إلى الإلحاد والذي يحصر الحياة في كونها مجرد عنصر من عناصر المادة مقاربات فلسفية مزعومة وكئيبة”، ذكر منها الأب حبيقة على سبيل المثال “كتابات الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري الذي يعتبر في كتابه “La puissance d’exister” إنه لا فائدة من التفكير في إضفاء طاقات جديدة على المجتمع بغية تأمين ديمومته الحقيقية، حيث لا يرى هذا الفيلسوف الملحد في الروحانية التي تبشر بها الديانة المسيحية، إلا أداة لقمع تجدد الفكر والحياة فيساوي بالتالي بين الدين والحالة المرضية، ويدعو إلى تطهير الإلحاد من رواسب المسيحية…”.
واشار الى أن “عددا لافتا من النقاد يعارض تماما تحليلات ميشال أونفري “المرضية” مع التأكيد على أن المسيحية لا تقمع الفكر ولا العمل. ويضيف هؤلاء أن الخصوبة الثقافية (الفنية والفلسفية والأدبية والهندسية والعلمية) والإنسانية التي تتميز بها المسيحية شكلت التربة الخصبة للحداثة، ويشددون على أن فلاسفة ملحدين آخرين أكثر صدقا، أمثال أندريه كونت – سبونفيل ولوك فيري يعترفون بذلك. ويذكرون أيضا الملاحظات الحاذقة والمستنيرة للطبيب النفساني النمساوي فيكتور فرانكل إثر اختباره مخيمات الموت النازية، حيث يقول إن بعض الاضطرابات العصبية ناجمة عن كبت البعد الديني… وإن هذا المعنى الديني هو ما ساعده على الصمود في وجه التجربة وعلى عدم فقدان الثقة والرجاء”.
وقال: “هي أن انهيار الروحانية الدينية وظهور التشدد الديني الأعمى والمعمي يدفعان بالبشرية إلى الارتماء في حضن العدمية. والسبيل الوحيد إلى استجماع قوانا في انحدارنا نحو اليأس هو العودة إلى حكمة كبار فلاسفة العصور القديمة، وخصوصا إلى نصائح أرسطو في كتابه “علم الأخلاق إلى نيقوماخوس”، حيث يقول: لا ينبغي أن نعير آذانا صاغية إلى الأشخاص الذين ينصحوننا، بحجة أننا بشر، بحصر تفكيرنا في الأمور البشرية، وبحجة أننا فانون، بالعزوف عن الأشياء الخالدة. بل ينبغي، قدر المستطاع، أن نجعل من أنفسنا أناسا خالدين وأن نبذل ما في وسعنا للعيش وفق المكون الأكثر تميزا فينا، لأن المبدأ الإلهي – وإن كان محدود الحجم – يتغلب وبأشواط على أي شيء آخر من حيث القوة والقيمة. بوجيز الكلام، إن استعادة المعنى الروحي الأصلي للوجود إنما هو الأمل الوحيد بالخلاص لكي يستعيد الإنسان فرح الوجود ويحظى بموت هانئ وعبور دافئ إلى مساحات الأبد”.
واختتم الاحتفال بعشاء تقليدي أقيم في الباحة الخارجية للجامعة.
وطنية