منذ سنة 2009 وربما قبل ذلك بكثير، أطلّ الأب طوني خضرا رئيس جمعية لابورا من الذات المسيحيّة إلى المدى اللبنانيّ مناضلاً في سبيل استعادة حقوق المسيحيين في مؤسسات الدولة على مختلف أنواعها. هو من الأوائل المنذورين لهكذا عمل شاقّ ومضن في بيئة طائفيّة مغلقة يحاول فيها الآخرون نهش لحم المسيحيين منذ التسعينيات من القرن المنصرم، ونزف دمهم وجعلهم هباءً في فضاء يستبد به الآخرون على حسابهم وتراثهم التكوينيّ للبنان والمشرق العربيّ. ما قصد هذا الأب الجليل في كلّ مسراه التحوّل إلى ظاهرة صوتية باستدلاله عطف الناس ضمن مشهد مثير لهم ولغرائزهم في بيئة طائفيّة متخلّفة ومتورمة، بل تجذّر رويدًا رويدًا في هذه المساحة المنادية للعقول ضمن حراك علميّ يعاونه فيه خبراء كبار في علم الإحصاء ومستشارون سياسيون وقدامى موظفي الدولة اللبنانيّة، في استعراض جليّ وعميق لتفريغ الدولة من المسيحيين في قطاعات عديدة، والاستيلاء عليها من طائفيّات سياسية أخرى.
يتمركز الأب الأنطونيّ طوني في صلب مشهد ليس غريبًا على الإطلاق في علاقة المسيحيين بالدولة، وهو ومعظم المعنيين ملاحظون الهشاشة والعطب في تفاعل المؤسسة الكنسيّة في لبنان والمشرق مع جرح نازف حتى الفناء. الإشارة إلى المؤسسة الكنسية تعني معظم الكنائس من موارنة وروم وكاثوليك، ذلك أنّ البطاركة والأساقفة يكتفون بالنداء والتنبيه ولا يستعملون عصاهم للتأنيب، “قال هي عصاي أتوكّأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي بها مآرب أخرى” (سورة طه الآية 17).
ويتذكّر القدماء في لبنان تفاعل البطاركة والمطارنة حين يلاحظون غبنًا ناشئًا بحقّ المسيحيين، فعلى سبيل المثال لا الحصر لا يمكن التنكرّ لدور البطريرك أنطون عريضة عند الموارنة أو المطران إيليّا الصليبي مطران بيروت الراحل للأرثوذكس في الحفاظ على مكاسب الموارنة والأرثوذكس في دوائر الدولة اللبنانيّة، وحين كانوا يلاحظون غبنًا أو افتئاتًا كان صراخهم يعلو بوجه الغابنين المفتئتين، ويحركّون العصا، لدرجة أن المطران إيليا الصليبي رحمه الله، وكما ذكر شهود حين كان يغضب من رئيس الجمهوريّة فؤاد شهاب أو رئيس الحكومة صائب سلام أو رشيد كرامي، بسبب غبن لاحق بالطائفة، كان يضرب بعصاه على الأرض، وحين سئل مرّة لماذا تضرب بعصاك على الأرض؟ أجاب بالعامية وعلى طريقته الجبليّة الخاصّة وهو ابن بلدة سوق الغرب: “خلّيه ينقبر يسمع صوت الرعية، هيدا منو صوتي هيدا صوت الرعيّة”.
ليست العودة إلى ذلك التاريخ من باب الحنين الماضويّ، ولكنّها عودة لاستنباط معانيه وعبره مع شخصيّات روحيّة امتلكت القدرة على مخاطبة الرؤساء والمسؤولين كائنًا من كانوا بروح المسؤوليّة الصارمة حتّى ولو اضطر الأمر لأن يضرب الراعي بالعصا على الأرض بقوّة، “قال هي عصاي أتوكّأ عليها…” الموجع في المشهد العام ومع تصاعد شكوى المسيحيين أنّه لا يوجد راع على المستوى الكنسيّ يضرب بعصاه ويدعو الناس للتمرّد على الخلل المباح من قبل من استهلك المسيحيين في الوظائف في الفئات الأولى والثانية والثالثة. والأكثر إيلامًا أنّ الكنيسة منذ تطبيق اتفاق الطائف إلى الآن كانت الأكثر استسلامًا من السياسيين المسيحيين الذين بمعظمهم قد استولدوا في كنف الآخرين، من ضمن أدبيات سائدة تعاطت مع المسيحيين على أنهم وكما قال نائب رئيس المجلس النيابيّ سابقًا إيلي الفرزلي “تفليسة توزّع ذممها على الآخرين”.
كثيرون في تلك المرحلة أشاروا إلى أنّ للوصاية السورية دورًا في قضم الحضور المسيحي من السياسة إلى الدولة، واتهموا السوريين أيّما اتهام، خرج السوريون من لبنان سنة 2005 وظلّ الافتئات سيد الموقف وبلا هوادة، ومنذ سنة 2009 خرجت أصوات معترضة على عملية الافتئات بحقّ المسيحيين سواء عبر معركة صلاحيات يجب أن تتجسّد لموقع نائب رئيس الحكومة الأرثوذكسيّ وصولاً إلى المواقع التي منها همّش المسيحيون، وتصرّف الآخرون وكأن ليس من صوت صارخ ويسمع، حتّى ولد “اللقاء الأرثوذكسيّ”، ومن بعده اللقاء المسيحيّ لينحت أدبيات عالية لم تتصل حصرًا بمشروعه الانتخابيّ بل تفرّعت منه إلى التأكيد على أنّ لبنان لا يعلو ولا يسمو إلاّ بالمشاركة على أساس المناصفة وهذا ما يحفّز على ديمومة الأنموذج الميثاقيّ في لبنان، وتواكب الجميع مع الأب طوني خضرة ومؤسسة لابورا، للتحفيز على ذلك، وقال بعض من عمل على كلّ تلك الملفّات بأنّ الأساس البنيويّ مفقود ومشلّع ضمن الخصوصيّة المسيحيّة المكوّنة للبنان، فمن شأن الآخرين حينئذ أن يستفيدوا من التمزق البنيويّ ليضغطوا أكثر فأكثر باتجاه سحب كل الأوراق من يد المسيحيين وبخاصّة تلك التي توطّد علاقتهم بالدولة وبكل القطاعات العائدة لها، وما حصل على سبيل المثال لا الحصر في مسألة المرفأ منذ أشهر عديدة خير دليل على ذلك، لم يستطع المسيحيون إثبات موجوديتهم في ملف اعتبر تفصيلاً صغيرًا من التفاصيل العابرة، فالأفضل إذًا أن يلجوا وحدة متينة يستكينون في مداها ويستوون في عراها ويتجلون من أسسها، كحالة سياسيّة وفعل إحيائيّ يتموضعون فيه على كل المستويات.
ولمّا بلغ المسيحيون وحدتهم بتجليات واضحة وتحديدات صارمة في ظلّ تحديات كبرى تحيط بهم بمعانيها التكوينيّة المترسبّة في المنطقة والمنسابة إلى الداخل اللبنانيّ، اشتدّت الضغوطات وراحت تستبدّ بموجوديتهم أكثر فأكثر بالمعنى السياسيّ في ظلّ الاتفاق بين التيار الوطنيّ الحر والقوات اللبنانيّة، وبخاصّة بعد بلوغ الاتفاق مرحلة فائقة في تبني ترشيح العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، والهدف عند الآخرين من التشدّد بالضغوطات حتى في الأوراق التفصيليّة الصغيرة على مستوى وزارات محددة ومسماة على هذا الفريق أو ذاك تكثيف الضغط بآليات تفصيليّة وموجعة للحدّ من تأثير الوحدة بمتانتها على واقع الدولة من ناحية وبالتالي لتوجيه رسالة خاصّة إلى من تبنّى ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة وإليه كمرشّح استراتيجيّ، مفادها إمّا أن تتفقوا معنا على مرشّح توافقيّ أو تحمّلوا ما سترونه في الآتي من الأيام.
غير أنّ الخريطة السياسيّة آيلة إلى التبدّل على إيقاع المشهد الميدانيّ في الخارج، لن يكون بمقدار أحد أن يبقى متحجرًا ومتجلّدًا في مسلكيات الضغوطات التي لا تعترف بحقّ المسيحيين بالمشاركة الفعليّة وهم مكوّن جوهريّ وتاريخيّ للبنان. ويرى كثيرون في ظلّ ما يتبين بأنّ الخيار إمّا بالتسليم المطلق بترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة أو الانتظار لتنكشف المرحلة المقبلة على غالب ومغلوب، وإذا ما ظهر الغالب على الخريطة اللبنانية بشروطه فما ستؤول إليه النتائج على كل المستويات؟
التمادي في قضم حقوق المسيحيين في لبنان كان متماهيًا من دون شكّ مع ما كان يحصل لهم في سوريا والعراق. وأي قضم لحقوقهم بعد الآن استمداد للنأي بهم وعزلهم، وبعد التلاقي بين التيار الوطنيّ الحرّ والقوات اللبنانيّة، على الكنيسة كما على السياسيين أن يستثمروا هذا المعطى بآلياته التكتيكيّة في ظلّ خطوطه الاستراتيجيّة العريضة للضرب بالعصا.
طوني خضرا الكاهن والراهب الأنطونيّ المناضل مع مؤسسة لا بورا قد أمسى عنوانًا حقيقيًّا من عناوين المواجهة، لكنّ الأساس أن يتحول الرعاة إلى جسد واحد يحملون عصا الرعاية يتوكّأون عليها كموسى في القرآن الكريم ويضربون بها الأرض أمام الآخرين ليسمع الجميع صوت المسيح برعيته، وليستقيم ميزان المشاركة من ضمن المسلمات الميثاقيّة التكوينيّة أو التاسيسيّة التي نشأ عليها لبنان، والتي إن تمزّقت سقط لبنان.
جورج عبيد
موقع التيار