إن نص الإنجيل الذي سمعناه من القديس متى يجعلنا نوجه أنظارنا نحو يسوع الذي كان يسير في المدن والقرى، ويدعونا لنلمس عمق ما في قلبه، أي ما كان يشعر به تجاه الجموع والأشخاص الذين كان يلتقيهم: إنه شعور شفقة داخلي لرؤيته لهؤلاء الجموع “تعبين رازحين كغنم لا راعي لها”. تمامًا كالعديد من الأشخاص الذين تلتقونهم اليوم على دروبكم… لسنا هنا لنقوم برياضة روحيّة في بداية زمن الصوم هذا وإنما لنصغي لصوت الروح الذي يكلّم الكنيسة في زمننا هذا زمن الرحمة.
تابع الأب الأقدس يقول: “إنه زمن الرحمة في الكنيسة” لقد كان هذا إلهام الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، لقد شعر أن هذا هو زمن الرحمة. وهذا يجعلنا نفكر بتطويب الأخت فوستينا كوفالسكا وأعلان قداستها، وفي عيد الرحمة الإلهية. ففي عظة التقديس شدّد البابا يوحنا بولس الثاني على أن رسالة يسوع المسيح للأخت فوستينا تقوم زمنيًّا بين حربين عالميّتين وهي مرتبطة بتاريخ القرن العشرين، وبالنظر إلى المستقبل قال: “ماذا ستحمل لنا السنوات المقبلة؟ كيف سيكون مستقبل الإنسان على الأرض؟ لن نتمكن أبدًا من معرفة هذا الأمر، وإنما من المؤكد أنه بالإضافة إلى التطورات الجديدة سنجد الخبرات المؤلمة أيضًا، لكن نور الرحمة الإلهية التي أراد الله أن يسلمها للعالم من خلال الأخت فوستينا سيضيء مسيرة البشر في الألفية الثالثة”. لقد كانت هذه كلمات البابا في العام 2000 ولكن يظهر لنا بوضوح أنه أمر كان ينمو وينضج في قلبه منذ فترة، وبأنه إلهام ناله بواسطة الصلاة.
نحن اليوم ننسى كل شيء بسرعة، تابع البابا فرنسيس يقول، والرحمة الإلهية هي إحدى هذه الأمور التي نسيناها، بينما هو واجب علينا، نحن الكهنة، أن نحافظ على هذا السرّ حيًّا من خلال عظاتنا وتصرفاتنا وخياراتنا الراعوية، كإعادة إعطاء الأولوية لسرّ المصالحة ولأعمال الرحمة على سبيل المثال. ماذا تعني هذه الرحمة بالنسبة لنا نحن الكهنة؟ تابع البابا يتساءل، هل نتأثر أمام الخراف على مثال يسوع عندما رأى الجموع تعبين رازحين كغنم لا راعي لها؟ فيسوع يملك “أحشاء” الله، وقلبه يفيض بالحنان تجاه البشر ولاسيما تجاه المهمشين والخطأة والمرضى الذين ليس لديهم أحدًا ليهتم بهم… وهكذا هو الكاهن، إنه على صورة الراعي الصالح، إنه رجل الرحمة والشفقة، قريب من شعبه وخادم للجميع، وكلُّ من جُرح في حياته، بأي شكل كان، يمكنه أن يجد عنده الانتباه والإصغاء… وتظهر هذه الرحمة عند الكاهن بشكل خاص خلال منحه لسرّ المصالحة: من خلال تصرفاته، واستقباله، إصغائه ونصائحه… ولكن هذا الأمر يأتي خصوصًا من طريقة عيشه الشخصيّة لهذا السرّ، ومن الطريقة التي يسمح فيها لله الآب بأن يغمره في الاعتراف… فعندما يعيش المرء هذا الأمر في حياته وفي قلبه يمكنه عندها أن يمنحه للآخرين من خلال خدمته.
أضاف البابا فرنسيس يقول: إن الكاهن مدعوٌّ ليتعلّم كيف يكون صاحب قلب يُحب ويُشفق، لأن الكهنة “العقيمين” لا يساعدون الكنيسة أبدًا. علينا أن نفكر بالكنيسة كـ “مستشفى لجرحى الحرب” حيث هناك حاجة ماسة لتضميد الجراح، حيث نجد العديد من الناس الذين تجرحهم المشاكل المادية والفضائح حتى داخل الكنيسة… أناس تجرحهم أوهام العالم… وبالتالي علينا نحن الكهنة أن نكون هناك بالقرب من هؤلاء الأشخاص. فالرحمة هي قبل كل شيء تضميد للجراح، لأن المجروح بحاجة أولاً لتضميد جراحه لا للفحوص والتحاليل، لذا علينا أولاً أن نداوي الجراح المفتوحة، والجراح التي لا يمكن رؤيتها إذ أن هناك أشخاص يبتعدون لأنهم لا يريدون أن يرى الآخرون جراحهم… وبهذا الصدد يعود فكري إلى ما كانت تقتضيه شريعة موسى بالنسبة للبرص في أيام يسوع إذ كان يتم إبعادهم كي لا يُعدوا الآخرين… هناك أشخاص يبتعدون بسبب خجلهم من جراحهم، يبتعدون عن الكنيسة بسبب هذه الجراح، بيد أن كل ما يلزم هو نظرة عطف تجاههم! فيا أيها الإخوة الأعزاء على تعرفون جراح أبناء رعاياكم؟ هل تشعرون بها؟ هل أنتم قريبون منهم؟
تابع الأب الأقدس يقول: لنعد إلى سرّ المصاحة، نسمع غالبًا عن خبرات المؤمنين الذين يخبروننا بأنهم التقوا في كرسي الاعتراف بكاهن متشدد ومتزمت أو بكاهن متساهل، وفي كلا الحالتين ليس بالأمر الجيّد. إذ أنه من الطبيعي أن نجد اختلافًا في الأسلوب بين الكهنة المُعرّفين، وإنما لا يمكن لهذه الاختلافات أن تطال جوهر التعليم العقائدي السليم أو جوهر الرحمة. لذلك فلا المتشدد ولا المتساهل بإمكانهما أن يقدما شهادة كاملة ليسوع المسيح، لأنهما كليهما لا يأخذان الشخص الذي يلتقيهما على عاتقهما ويغسلان أيديهما. بَيد أن الرحمة الحقيقية تتحمل مسؤولية الأشخاص وتأخذهم على عاتقها، تُصغي إليهم باهتمام وتقترب من حالتهم باحترام وترافقهم في مسيرة المصالحة. فالكاهن الرحوم هو الذي يتصرف تمامًا كالسامري الصالح… ولماذا؟ لأن قلبه قادرٌ أن يُشفق ويحب، إنه قلب المسيح!
نعلم جيّدًا أن التشدد والتساهل كلاهما لا يساهمان في مسيرة النمو في القداسة، إذ لا يقدسان الكاهن ولا المؤمن. ولكن الرحمة ترافق مسيرة القداسة وتنميها… بأي شكل؟ من خلال الألم الراعوي الذي يشكل نوعًا من أشكال الرحمة. وماذا يعني الألم الراعوي؟ هو أن نتألم مع الأشخاص ومن أجلهم، كما يتألم الأب والأم من أجل أبنائهم. ولكي أشرح قصدي سأطرح عليكم بعض الأسئلة التي تساعدني عندما يأتي إلي كاهن ما: هل تبكي؟ أم أننا فقدنا معنى الدموع؟ هل تبكي من أجل شعبك؟ هل تبكي عندما يمرض طفل أو يموت؟ هل تصلّي أمام بيت القربان؟ كيف تختتم نهارك؟ مع الرب؟ أو مع التلفاز؟ كيف تتعامل مع الأشخاص الذين يساعدونك على عيش الرحمة؟ أي كيف هي علاقتك بالأطفال والمسنين والمرضى؟ هل تعرف كيف تعطف عليهم أم أنكم تخجل من الاقتراب منهم؟
وختم الأب الأقدس كلمته لكهنة أبرشية روما بالقول: لا تخجل من “جسد” أخيك، لأننا في النهاية سنُحاسب على كيفية اقترابنا من كل أخ لنا وتعاملنا معه. فالكاهن واللاوي مرّا قبل السامري الصالح بذلك الرجل الذي ضربه اللصوص وتركوه على قارعة الطريق ولكنهما لم يعرفا كيف يقتربان منه. لقد كان قلبهما مغلقًا أما ذلك السامري فقد فتح قلبه وتحركت أحشاؤه وتحولت هذه الشفقة الداخلية إلى عمل خارجي وتدخل ملموس وفعّال لمساعدة ذلك الرجل. وفي نهاية الأزمان وحده الذي لم يخجل من “جسد” أخيه المجروح والمهمش سيتمكن من تأمل جسد المسيح الممجّد!.
إذاعة الفاتيكان