أجرى قداسة البابا فرنسيس مقابلته العامة مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس واستهل تعليمه الأسبوعي بالقول بعد أن تأمَّلنا حول رحمة الله في العهد القديم، نبدأ اليوم بالتأمّل حول كيفيّة تحقيق يسوع لها بالكامل. رحمة عبَّر عنها وحقّقها ونقلها على الدّوام في كلّ لحظة من حياته الأرضيّة. من خلال لقائه بالجموع وإعلان الإنجيل وشفاء المرضى والإقتراب من الأخيرين ومسامحة الخطأة يُظهر يسوع حبًّا مرئيًّا منفتحًا على الجميع: بدون استثناء أحد! منفتحًا على الجميع وبدون حدود. حبّ نقيّ ومجانيّ ومطلق. حبّ يبلغ ذروته في تضحية الصليب. نعم إنّ الإنجيل فعلاً هو “إنجيل الرّحمة” لأنّ يسوع هو الرّحمة.
تابع الأب الأقدس يقول إنّ الأناجيل الأربعة بأسرها تؤكّد أنّ يسوع وقبل أن ينطلق في خدمته أراد أن ينال المعموديّة من يوحنّا المعمدان (متى ٣، ١٣-١٧؛ مرقس ١، ٩-١١؛ لوقا ٣؛ ٢١-٢٢؛ يوحنا ١، ٢٩-٣٤). هذا الحدث يرسم توجُّهًا قاطعًا لرسالة المسيح بأسرها. في الواقع، هو لم يقدّم ذاته للعالم في بهاء الهيكل: لكن كان بإمكانه أن يفعل ذلك. لم يعلن عن ذاته بأصوات الأبواق: لكن كان بإمكانه أن يفعل ذلك. ولا بصفة ديّان: لكن كان بإمكانه أن يفعل ذلك. وإنّما وبعد ثلاثين سنة من حياة خفيّة في الناصرة، ذهب يسوع إلى نهر الأردن مع العديد من شعبه ووقف في صفوف الخطأة ليعتمد؛ لم يخجل بل وقف هناك مع الجميع ومع الخطأة. لذا ومنذ بداية خدمته، ظهر يسوع كالمسيح الذي يأخذ على عاتقه الحالة البشريّة بدافع التضامن والرأفة؛ كما يؤكّد هو نفسه في هيكل الناصرة إذ يمتثّل بنبؤة أشعيا: “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأنَّهُ مَسَحَني لأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ المَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ” (لوقا ٤، ١٨-١٩).
أضاف الحبر الأعظم يقول إنّ كلّ ما فعله يسوع بعد العماد كان التحقيق للمخطّط الأول: أن يحمل للجميع حبّ الله الذي يُخلِّص؛ فيسوع لم يحمل الحقد ولا العداوة وإنّما المحبّة! محبّة كبيرة وقلب مفتوح للجميع! محبّة تُخلّص! لقد اقترب من الأخيرين ونقل لهم رحمة الله التي هي مغفرة وفرح وحياة جديدة. يسوع هو الإبن المُرسل من الآب هو حقًّا بداية زمن الرّحمة للبشريّة بأسرها! والذين كانوا حاضرين على ضفّة نهر الأردن لم يفهموا فورًا معنى تصرُّف يسوع. حتى يوحنّا المعمدان نفسه قد دُهش من قراره (راجع متى ٣، ١٤). لكنّ الآب السماويّ لم يتفاجأ! بل أسمع صوته من العُلى قائلاً: “أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت” (مرقس ١، ١١). بهذا الشّكل يؤكِّد الآب الدّرب التي اتخذها الإبن كمسيح، فيما ينزل عليه الرّوح القدس بشكل حمامة. هكذا ينبض قلب يسوع بتناغم مع قلب الآب والرّوح القدس مُظهرًا لجميع البشر أنّ الخلاص هو ثمرة رحمة الله.
تابع الأب الأقدس يقول يمكننا أيضًا أن نتأمّل بوضوح أكبر السرّ الكبير لهذه المحبّة إذا نظرنا إلى يسوع المصلوب. عندما كان يموت بريئًا من أجلنا نحن الخطأة، توسّل إلى الآب قائلاً: “يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون” (لوقا ٢٣، ٣٤). فعلى الصّليب قدّم يسوع إلى رحمة الآب خطيئة العالم وخطايا الجميع: خطاياي وخطاياك وخطاياكم؛ وهناك على الصّليب يقدّمها للآب. ومع خطيئة العالم تُمحى خطايانا كلّها أيضًا. لا شيء ولا أحد يبقى محرومًا من صلاة التّضحية هذه التي قدّمها يسوع. هذا يعني أنّه لا ينبغي علينا أن نخاف من أن نُقرَّ ونعترف بأنّنا خطأة. كم من مرّة نقول: “هذا الإنسان خاطئ، وقد فعل كذا وكذا…” ونحكم على الآخرين. وأنت؟ على كل واحد منّا أن يسأل نفسه: “نعم هذا الإنسان خاطئ، وأنا؟” جميعنا خطأة ولكنّنا جميعًا قد نلنا الغفران: يمكننا جميعًا أن ننال هذه المغفرة التي هي رحمة الله، وبالتالي لا ينبغي علينا أن نخاف من أن نقرَّ أنّنا خطأة ونعترف بذلك لأنّ الإبن حمل جميع الخطايا على الصّليب. وعندما نعترف بهذا الأمر تائبين ومُتّكلين عليه نكون متأكّدين من أنّه قد غُفِرَ لنا. إنّ سرّ المصالحة يُأوِّن لكلّ شخص قوّة المغفرة التي تنبعث من الصّليب وتجدّد في حياتنا نعمة الرّحمة التي نالها لنا يسوع! لا يجب علينا أن نخاف من بؤسنا: ولكلّ منّا ضعفه وبؤسه. إنّ قوّة محبّة المصلوب لا تعرف الحواجز ولا تنضب أبدًا. وهذه الرّحمة تمحو جميع خطايانا.
وختم البابا فرنسيس تعليمه الأسبوعي بالقول أيّها الأعزّاء، لنطلب من الله في هذه السنة اليوبيليّة نعمة اختبار قوّة الإنجيل: إنجيل الرّحمة الذي يحوّل الإنسان ويُدخِله في قلب الله، ويجعلنا قادرين على المغفرة والنظر إلى العالم بطيبة أكبر. إِنْ قَبِلنا إنجيل المصلوب القائم من الموت فستُطبع حياتنا كلّها بقوّة محبّته المُجدِّدة.
إذاعة الفاتيكان