ترأس البابا فرنسيس عند الساعة التاسعة والنصف من مساء الأحد قداس ليلة عيد الميلاد في بازيليك القديس بطرس، وألقى عظة استهلها بآية من إنجيل القديس لوقا: “فولدت (مريم) ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل”. وقال البابا إن القديس لوقا البشير يقودنا ـ من خلال هذه العبارة البسيطة والواضحة ـ إلى صلب هذه الليلة المقدسة قائلاً إن مريم وَلدت الطفل، وهكذا يتم الولوج إلى حدث غيّر تاريخنا إلى الأبد. وأصبح كل شيء في تلك الليلة مصدراً للرجاء. بعدها قال البابا إن الإمبراطور الروماني أصدر مرسوماً حمل يوسف ومريم على الرحيل عن بلدتهما، فأُجبرا على ترك بيتهما وأهلهما وأرضهما والانطلاق ليكتتبا ويتم إحصاؤهما.
تابع البابا يقول: لم تكن هذه الرحلة مريحةً وسهلة على الإطلاق بالنسبة لزوجين كانا يستعدان لولادة طفل. فقد أُجبرا على مغادرة أرضهما. وكان قلباهما مفعمَين بالأمل في المستقبل بسبب هذا الطفل الذي شارف على الولادة. أما خطواتُهما فكانت مفعمة بالريبة والشك وبالمخاطر التي يشعر بها المرغمون على ترك أرضهم. وسرعان ما وجدا نفسَيهما أمام وضع أكثر صعوبة إذ وصلا إلى بيت لحم ولم يجدا مكاناً يبيتان فيه. لقد ولدت مريم ابن الله، العمانوئيل، في إسطبل لأنه لم يوجد مكان لهذه العائلة.
مضى البابا إلى القول إنه في هذه المدينة المظلمة والتي كانت تعجّ بالناس، أضيئت شرارة ثورية لحنان الله. وفي بيت لحم خُلقت فسحة جديدة للأشخاص الذين فقدوا أرضهم ووطنهم وأحلامهم، ومن استسلموا للحياة المنغلقة على ذاتها. وأكد فرنسيس أننا نرى اليوم خطوات عائلات كثيرة تُرغم على مغادرة أرضها، نرى خطوات ملايين الأشخاص الذين لم يختاروا النزوح لكنهم مرغمون على الانفصال عن أهلهم وأحبائهم، وهم مطرودون من أرضهم. وفي العديد من الحالات يكون هذا الانطلاق مفعما بالآمال ويتطلع إلى المستقبل. وفي الكثير من الحالات يهدف هذا الانطلاق إلى البقاء على قيد الحياة والنجاة من “الهيرودوسات” الذين يسعون إلى فرض جبروتهم، وزيادة ثرواتهم، ولا يجدون مشكلة في قتل الأبرياء.
وكان يوسف ومريم، اللذين لم يجدا مكاناً لهما، أول الأشخاص الذين عانقوا من جاء ليعبّر ـ من خلال فقره وصِغَره ـ عن القوة الحقيقية والحرية الأصيلة لمن يساعدون الفقراء والمحتاجين. وقد تم إعلان هذا الطفل في تلك الليلة على جميع الأشخاص الفقراء، الذين لم يجدوا مكاناً لهم على الموائد وفي شوارع المدينة. وكان الرعاة أول من تلقوا هذا النبأ السار. فكانوا الأشخاص العائشين على هامش المجتمع، وكانت ظروف حياتهم وعملِهم تمنعهم من التقيّد بتوجيهات الشريعة، وطقوس التطهير الدينية، فكانوا يُعتبرون غير طاهرين. كانوا أشخاصاً ينبغي الابتعاد عنهم أو الخوف منهم، وكانوا يُعتبرون خطأة بين الصالحين ووثنيين بين المؤمنين. فقال الملاك لهؤلاء “لا تخافوا. فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب”.
تابع البابا فرنسيس عظته قائلاً إن هذا هو الفرح الذي ينبغي أن نعلنه ونتقاسمه ونحتفل به اليوم. هذا الفرح الذي عانقنا من خلاله الرب برحمته اللامتناهية، إذ عانقنا نحن الوثنيين والخطأة والغرباء،وهو يحثنا على فعل الشيء نفسه. واعتبر البابا أن الإيمان في هذه الليلة يحملنا على التعرّف على الله المتواجد في كل الأوضاع حيث نعتبره غائبا. إنه موجود في الأشخاص الذين نلتقي بهم في شوارع مدننا، أو على متن الحافلات أو من يقرعون أبوابنا.
وشدد فرنسيس في هذا السياق على عدم الخوف من اختبار أشكال جديدة من العلاقات كي لا يشعر أي شخص بأنه لا يوجد مكانٌ له على هذه الأرض. وأكد البابا أن عيد الميلاد هو زمن تحويل قوة الخوف إلى قوة المحبة، هذه المحبة التي لا تعتاد على أوضاع الظلم وكأنها شيء طبيعي. وذكّر فرنسيس في هذا السياق بالكلمات الشهيرة التي تفوه بها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في أعقاب انتخابه في الثاني والعشرين من تشرين الأول أكتوبر من العام 1978 حين قال “لا تخافوا! افتحوا، بل شرعوا، أبوابكم للمسيح”.
مضى البابا إلى القول إنه من خلال طفل بيت لحم يأتي الله إلينا ليجعلنا رواد الحياة التي تحيط بنا، مشدداً على ضرورة ألا نخاف من مساعدة ومعانقة الغريب والعطشان والعريان والمريض والسجين. كما أن الله يدعونا إلى الاهتمام بالأشخاص المحتاجين الذين لا يجدون أمامهم سوى الأبواب الموصدة.
في ختام عظته في قداس ليلة عيد الميلاد سأل البابا طفل بيت لحم أن يساعدنا على الإصغاء لبكاء الأشخاص المحتاجين وعلى تخطي مشاعر اللامبالاة وعلى فتح الأعين لنرى كل المتألمين كي نكون حقاً أناساً مرسلين نحمل لرجال ونساء زماننا الحاضر الرجاء والحنان.