توجه قداسة البابا فرنسيس إلى نصب السلام في هيروشيما حيث نُظم لقاء من أجل السلام. وعقب الاستماع إلى شهادتين لشخصين من ضحايا الهجوم النووي بدأ الأب الأقدس حديثه بكلمات المزمور “لأجل إخوتي وأخلائي لَأدعوَنَّ لكِ بالسلام” (مز 122، 8). ثم أكد قداسته رفع الأعين إلى الله من هذا المكان الذي تقاطع فيه الموت والحياة، الهزيمة والنهضة، الألم والرحمة، مكان لم يبق فيه من الكثير من الرجال والنساء وأحلامهم وآمالهم سوى الظل والصمت حيث التهم الدمار والموت كل شيء في لحظة. وأضاف البابا أنه ومن هوة الصمت هذه لا نزال نسمع اليوم الصرخة القوية لهؤلاء الأشخاص. وتابع الأب الأقدس مذكرا بالضحايا جميعا وأضاف أنه ينحني أمام قوة وكرامة الناجين من تلك اللحظات الأولى لكنهم تحمَّلوا في أجسادهم لسنوات كثيرة ألما كبيرا، وفي أذهانهم بذور الموت التي واصلت استهلاك طاقتهم الحيوية. وأضاف البابا أنه شعر بواجب المجيء إلى هذا المكان كحاج سلام كي يصلي متذكرا الضحايا الأبرياء لهذا العنف الكبير وحاملا في قلبه تضرعات وتطلعات رجال ونساء زمننا، وخاصة الشباب الذين يبتغون السلام ومن أجله يعملون ويضحون. وواصل قداسة البابا أنه يأتي إلى هذا المكان المفعم بالذكرى والمستقبل حاملا معه صرخة الفقراء الذين هم دائما الضحايا الأكثر ضعفا للكراهية والنزاعات.
تابع البابا فرنسيس كلمته متحدثا عن رغبته بتواضع في أن يكون صوت مَن لا يُصغى إلى صوتهم والذين ينظرون بقلق إلى التوتر المتصاعد الذي يشهده زمننا وأشكال اللامساواة والظلم غير المقبولة التي تهدد التعايش بين البشر، والعجز الخطير عن العناية بيتنا المشترك واللجوء المستمر إلى الأسلحة وكأنها قادرة على ضمان مستقبل سلام. وأراد البابا فرنسيس في هذا السياق التأكيد مجددا على أن الاستخدام الحربي للطاقة النووية هو اليوم وأكثر من أي وقت سابق جريمة لا فقط ضد الإنسان وكرامته، بل ضد مستقبل ممكن لبيتنا المشترك. وشدد قداسته على أن هذا الاستخدام غير أخلاقي، وغير أخلاقي هو أيضا امتلاك أسلحة نووية حسب ما سبق لقداسته وذكر قبل عامين. وتابع البابا أننا سنساءل على هذا وستكون الأجيال القادمة كالقضاة الذين يحكمون على هزيمتنا إن كنا قد تحدثنا عن السلام بدون أن نطبقه بأفعالنا وسط شعوب الأرض. وتساءل الأب الأقدس كيف يمكننا الحديث عن السلام بينما نشيِّد أسلحة جديدة ومتطورة ونبرر أفعالا غير شرعية بخطابات تفرقة وكراهية.
أكد البابا فرنسيس بعد ذلك، وانطلاقا من كلمات البابا القديس يوحنا الثالث والعشرين في رسالته العامة ” السلام في الأرض”، أن السلام يظل مجرد كلمة إن لم يتأسس على الحقيقة ويشيَّد على أساس العدل، يحيَ بالمحبة ويتحقق بالحرية. وتابع الأب الأقدس أن بناء السلام في الحقيقة والعدل يعني، وحسب ما جاء في الرسالة العامة المذكورة، الاعتراف بوجود تفاوت “غالباً ما يكون شاسعاً، في العلم والفضيلة والإمكانات العقلية والخيرات المادية”، إلا أن هذا لا يمكنه أبدا أن يبرر الرغبة في فرض المصالح الخاصة على الآخرين، بل على العكس يمكن لهذا أن يكون دافعا إلى مسؤولية واحترام أكبر. وواصل البابا أن الجماعات السياسية والتي يمكن أن تتفاوت فيما بينها فيما يتعلق بالثقافة والتنمية الاقتصادية هي مدعوة إلى الالتزام والعمل من أحل التطور العام، من أجل خير الجميع. (راجع الرسالة العامة “السلام في الأرض” 18، 49، 50).
هذا وعاد قداسة البابا فرنسيس أيضا إلى القديس البابا بولس السادس وتحديدا إلى كلمته في الأمم المتحدة سنة 1965، فقال إننا إذا أردنا بناء مجتمع عادل وآمن فعلينا ترك السلاح، فليست هناك محبة بينما نمسك بالسلاح. وواصل الأب الأقدس أننا حين نستسلم لمنطق السلاح نبتعد عن ممارسة الحوار وننسى بشكل مأساوي تأثير الأسلحة، وقبل أن تسفر عن ضحايا ودمار، على نفسية الشعوب وما تتطلب من نفقات إلى جانب تعطيلها لمشاريع التضامن والعمل المفيد حسب ما ذكر البابا القديس بولس السادس في كلمته. ثم واصل البابا فرنسيس التساؤل كيف يمكننا اقتراح السلام بينما نستخدم بشكل متواصل التهديد النووي كوسيلة مشروعة لحل النزاعات، وشدد على أن السلام الحقيقي هو فقط سلام بلا سلاح. وذكَّر قداسته هنا بحديث الوثيقة المجمعية الدستور الرعوي في الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء” عن السلام والذي هو ليس مجرد انعدام الحرب بل يجب بناؤه باستمرار، وتابع البابا أن السلام هو ثمرة العدالة والتنمية والتضامن والاهتمام ببيتنا المشترك وتعزيز الخير العام مع التعلم من التاريخ.
تحدث الأب الأقدس بعد ذلك عن ثلاثة واجبات أخلاقية تكتسب في هذا المكان، في هيروشيما، معنى أقوى وأوسع ويمكنها أن تفتح طريق سلام، ألا وهي التذكر والسير معا والحماية. وتابع أنه لا يمكن بالتالي أن ندع الأجيال الحالية والقادمة تفقد الذاكرة حول ما حدث، فالذكرى هي ضمانةٌ وتحفيز لبناء مستقبل أكثر عدالة وأخوّة. وشدد البابا على أهمية أن توقظ الذاكرة ضمائر الجميع وخاصة من لديهم مسؤولية عن مصائر الأمم، ذاكرة تساعد على أن يقال جيلا بعد جيل: أبدًا. وتابع البابا فرنسيس أننا مدعوون ولهذا تحديدا إلى السير معا بنظرة فهم ومغفرة فاتحين الأفق أمام الرجاء، وحاملين شعاع نور إلى الغيوم الكثيرة التي تحجب السماء اليوم. علينا الانفتاح على الرجاء بأن نكون أدوات مصالحة وسلام. وواصل البابا فرنسيس أن هذا سيكون ممكنا دائما حين نكون قادرين على الحماية المتبادلة واعتبار بعضنا البعض أخوة في مصير مشترك. وقال الأب الأقدس إن عالمنا المترابط، لا فقط بسبب العولمة بل ومنذ البداية بفضل الأرض المشتركة يتطلب أكثر من أي مرحلة ماضية جعل المصالح الخاصة لمجموعات أو قطاعات بعينها في المرتبة الثانية، وذلك لبلوغ عظمة من يكافحون في مسؤولية مشتركة لضمان مستقبل مشترك.
وفي ختام كلمته بعد ظهر اليوم بالتوقيت المحلي في لقاء من أجل السلام في نصب السلام في هيروشيما، دعا البابا فرنسيس إلى إطلاق صرخة مشتركة باسم ضحايا القصف والتجارب النووية والنزاعات كافة: لا للحرب أبدا، لا لدوي السلاح، لا لهذا الألم الكبير أبدا، وليحل السلام على أيامنا وعالمنا. ثم تضرع الأب الأقدس إلى الله، الذي وعدنا حسب كلمات صاحب المزامير، بأن الرحمة والحق يتلاقيان والبر والسلام يتعانقان، ومن الأرض ينبت الحق ومن السماء يتطلع البر، طالبا أن يحل محل الدمار الكثير رجاءٌ وافر في إنه من الممكن كتابة وتحقيق تاريخ مختلف، وطلب البابا في تضرعه إلى الله أن يجعل منا أدوات وأصداء سلامه.
أخبار الفاتيكان