في إطار زيارته الراعويّة إلى مولفيتّا وأليسَّانو ترأس قداسة البابا فرنسيس القداس الإلهي في ميناء مولفيتّا بحضور عدد كبير من الأساقفة والكهنة والمكرّسين والمؤمنين قدموا من مختلف أنحاء المنطقة وللمناسبة ألقى الأب الاقدس عظة قال فيها تقدّم لنا القراءات التي سمعناها عنصرين أساسيين للحياة المسيحيّة: الخبز والكلمة.
تابع الأب الأقدس يقول أولاً الخبز. الخبز هو الطعام الأساسي لنحيا ويسوع في الإنجيل يقدّم نفسه لنا كخبزِ حياة كمن يقول لنا “أنتم بحاجة لي” ويستعمل عبارات قويّة: “كلوا جسدي واشربوا دمي”. ما معنى هذا الأمر؟ أنّه من الجوهري لحياتنا أن ندخل في علاقة حيويّة وشخصيّة معه. جسد ودم هذه هي الإفخارستيا، ليست مجرّد طقس بل هي الشركة الأعمق والأكثر واقعيّة التي يمكن أن نتخيّلها مع الله: شركة محبّة حقيقيّة لدرجة أنّها تأخذ شكل الطعام. إن الحياة المسيحيّة تنطلق مجدّدًا في كلِّ مرّة من هنا، من هذه المائدة حيث يُشبعنا الله من المحبّة. بدونه خبز الحياة كل جهد في الكنيسة هو بلا فائدة، كما كان الاب طونينو بيلّو يقول: “لا تكفي أعمال المحبّة إن كانت الأعمال خاليّة من المحبّة. إن غابت المحبّة التي منها تنطلق الأعمال، إن غاب المصدر ونقطة الانطلاق التي هي الإفخارستيا يصبح الالتزام الراعوي مجرّد أمور متتابعة”.
أضاف الحبر الأعظم يقول ويضيف يسوع في الإنجيل: “مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه”، كمن يقول “من يتغذّى من الإفخارستيا يصبح شبيهًا بالرب. إنّه الخبز الذي يُكسر من أجلنا ومن يناله يُصبح بدوره خبزًا مكسورًا لا ينتفخ بالكبرياء بل يبذل نفسه في سبيل الآخرين: يكفُّ عن العيش لنفسه ونجاحاته وطموحاته ويحيا ليسوع وعلى مثاله، أي من أجل الآخرين. إنَّ العيش من أجل الآخرين هو العلامة لمن يأكل هذا الخبز، “اسم الماركة” الخاصّ بالمسيحي، وبالتالي يمكننا أن نضع إعلانًا خارج كلِّ كنيسة: “بعد القداس لن تحيا أبدًا لنفسك وإنما للآخرين”. هكذا عاش الأب طونينو بيلّو: لقد كان بينكم أسقفًا – خادمًا وراعيًا صار شعبًا، يتعلّم أمام بيت القربان كيف يصبح مأكلاً للناس. لقد كان يحلم بكنيسة جائعة للمسيح ولا تقبل روح العالم، كنيسة تعرف كيف تتنبّه لجسد المسيح الموجود في بيوت القربان المزعجة للبؤس والألم والوحدة، لأنّه كان يقول “إن الإفخارستيا لا تتحمّل القُعَدَة وإن لم تقُم عن المائدة تبقى سرًّا غير مكتمل. وبالتالي يمكننا أن نسأل أنفسنا: هل هذا السرُّ يتحقق فيَّ؟ وبشكل واقعي أكثر: هل أُفضِّل أن أُخدم فقط على مائدة الرب أم أنني أنهض لأَخدُم على مثال الرب؟ هل أُعطي في حياتي ما أناله في القداس؟ وككنيسة يمكننا أن نسأل أنفسنا: بعد هذه المناولات العديدة هل أصبحنا أشخاص شركة؟
تابع البابا فرنسيس يقول إن خبز الحياة، الخبز المكسور هو في الواقع أيضًا خبز سلام. لقد كان الأب طونينو يؤكِّد أنَّ السلام لا يأتي عندما يأخذ المرء خبزه ويذهب ليأكله بمفرده… السلام هو أكثر من ذلك إنّه تعايش؛ هو أن نأكل الخبز مع الآخرين بدون أن ننفصل عنهم وأن نجلس إلى المائدة مع أشخاص مختلفين حيث الآخر هو وجه ينبغي عليَّ أن أكتشفه وأتأمّل به وألمسه بحنان، لأنَّ كلَّ النزاعات والحروب تجد جذورها في اضمحلال الوجوه. وبالتالي فنحن الذين نتقاسم خبز الوحدة والسلام هذا مدعوون لنحب كلَّ وجه ونصلحَ كلَّ انقسام ونكون بناة سلام دائمًا وفي كل مكان.
أضاف الاب الأقدس يقول بالإضافة إلى الخبز هناك الكلمة. ويخبرنا الإنجيل عن جدال قويّ دار حول كلمات يسوع: “كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه؟”، هناك نوع من الانهزاميّة في هذه الكلمات، وكم من مرّة تشبه كلماتنا هذه الكلمات: كيف يمكن للإنجيل أن يحلَّ مشاكل العالم؟ ماذا ينفع فعل الخير وسط هذا الشر الكبير؟ وهكذا نسقط في خطأ هؤلاء الأشخاص الذين يشلُّهم الجدال حول كلمات يسوع بدلاً من أن نكون مُستعدّين لقبول تغيير الحياة الذي يطلبه منا. لم يفهوا أن كلمة يسوع هي لكي يسيروا في حياتهم ولا لكي يجلسوا ويتجادلوا حولها. لقد كان الأب طونينو يتمنى، في زمن الفصح، أن تُقبل حداثة الحياة هذه وينتقل الأشخاص من الكلام إلى الأعمال ولذلك كان يحث باستمرار الأشخاص الذين لم يكن لديهم الشجاعة ليغيِّروا قائلاً: لا يمكننا أن نجيب يسوع بناء على حسابات ومصالح اللحظة وإنما بواسطة “نعم” لمدى الحياة، لأنّه لا يبحث عن مباحثاتنا وتأملاتنا وإنما عن ارتدادنا.
تابع البابا فرنسيس يقول وهذا ما تقترحه علينا كلمة الله عينها، ففي القراءة الأولى التي تقدّمها لنا الليتورجيّة اليوم يتوجّه يسوع القائم من الموت إلى شاوول ويطلب منه أن يخاطر: “قُمْ وادخُلِ المَدينة، فيُقالَ لَكَ ما يَجِبُ علَيكَ أَن تَفعَلِ”. أولاً “قُم” وبالتالي فأول شيء ينبغي تحاشيه هو البقاء أرضًا والخضوع والبقاء فريسة للخوف. كم من مرّة كان الأب طونينو يكرِّر: “قف!” لأنه عليك أن تكون واقفًا في حضرة القائم من الموت. إنها دعوة للنهوض مجدّدًا وعلى الدوام وللنظر إلى العلى لأنَّ رسول يسوع لا يمكنه أن يعيش مكتفيًّا بترضيات صغيرة.
بعدها، أضاف الحبر الأعظم يقول، يقول الرب لشاوول “أدخل المدينة”، ولكل فرد منا هو يقول أيضًا إذهب وانطلق لا تبقى منغلقًا في ضماناتك، خاطر! على الحياة المسيحيّة أن تُستثمَر من أجل المسيح وتُبذَل في سبيل الآخرين. وبعد اللقاء بالقائم من الموت لا يمكننا الانتظار ولا التأجيل وإنما ينبغي علينا أن نذهب وننطلق بالرغم من جميع المشاكل والشكوك. نرى على سبيل المثال شاوول الذي وبعد أن تكلّم مع يسوع، بالرغم من أنّه لم يعد يبصر شيئًا، قام وذهب إلى المدينة. ونرى أيضًا حننيا بالرغم من خوفه وشكِّه يقول: “لَبَّيكَ، يا رَبّ” وعلى الفور قام وانطلق. جميعنا مدعوّين، مهما كانت الحالة التي نعيشها، لنكون حملة الرجاء الفصحي، لنكون كما كان الأب طونينو يقول “حملة فرح” وخدامًا للعالم، وإنما كقائمين من الموت ولا كموظّفين ، وبدون أن نيأس أو أن نستسلم. إنه لجميل جدًّا أن نكون رسل رجاء وموزِّعين بسيطين وفرحين للـ “هللويا” الفصحية.
وفي الختام، تابع البابا فرنسيس يقول يسوع لشاوول: “سيُقال لَكَ ما يَجِبُ علَيكَ أَن تَفعَلِ”. وشاوول الرجل الحازم والناجح، يسكت وينطلق طائعًا لكلمة يسوع. يقبل أن يطيع ويصبح صبورًا ويفهم أن حياته لم تعد بعد الآن متعلِّقة به ويتعلّم التواضع. لأن التواضع لا يعني الرزانة والخجل وإنما الطاعة لله والتخلّي عن الذات. وعندها حتى الإهانات كتلك التي اختبرها شاوول على الأرض على طريق دمشق تصبح مُبهجة لأنّها تُجرِّد من الكبرياء وتسمح لله بأن يرفعنا. وهذا ما تفعله أيضًا كلمة الله: تحرّرنا وترفعنا وتجعلنا ننطلق قدمًا متواضعين وشجعانًا في الوقت عينه. لا تجعل منا روّادًا مُحقّقين وأبطالاً وإنما شهودًا حقيقيين ليسوع في العالم.
وختم الأب الأقدس عظته بالقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء في كلِّ قداس نتغذّى من خبز الحياة والكلمة التي تخلِّص: لنحيا ما نحتفل به، فنصبح هكذا على مثال الأب طونينو ينابيع رجاء وفرح وسلام!
إذاعة الفاتيكان