“الله صار صغيرًا ليصبح لنا مأكلاً. وعندما نغتذي به، هو خبز الحياة، يمكننا أن نولد مجدّدًا في المحبّة” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا قداس ليلة عيد الميلاد
ترأس قداسة البابا فرنسيس قداس ليلة عيد الميلاد في بازيليك القديس بطرس، وألقى عظة استهلها بالقول: صعد يوسف ومريم خطيبته “إِلى مَدينَةِ داودَ الَّتي يُقالُ لَها بَيتَ لَحم”؛ ونحن أيضًا نصعد هذه الليلة إلى بيت لحم لكي نكتشف فيها سرَّ الميلاد.
تابع الأب الأقدس يقول بيت لحم: اسم يعني بيت الخبز. في هذا البيت يعطي الرب اليوم موعدًا للبشريّة. هو يعرف اننا نحتاج للأكل لكي نحيا. لكنه يعرف أيضًا أن غذاء العالم لا يشبع القلب. في الكتاب المقدّس تُربط خطيئة البشريّة الأصليّة بالأكل، يقول سفر التكوين: “فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ”. أخذ وأكل، لقد أصبح الإنسان جشعًا وشرهًا. يبدو أن الامتلاك والامتلاء من الأشياء هو بالنسبة لكثيرين معنى الحياة. جشع لا يشبع يخترق التاريخ، وصولاً إلى مفارقات اليوم، عندما يقيم قليلون المآدب وكثيرون لا يملكون الخبز ليحيوا.
أضاف الحبر الأعظم يقول بيت لحم هي نقطة التحوّل لتغيير مجرى التاريخ. هناك في بيت الخبز يولد الله في مذود؛ كمن يقول لنا: هاءنذا لكم كطعامكم. لا يأخذ بل يقدّم لنأكل، لا يعطي شيئًا ما بل ذاته. في بيت لحم نكتشف أنَّ الله ليس أحدًا يأخذ الحياة بل هو الذي يعطيها. وإلى الإنسان، الذي اعتاد منذ البدء على أن يأخذ ويأكل، يبدأ يسوع بالقول: “خُذوا فَكُلوا، هذا هُوَ جَسَدي”. إنَّ الجسد الصغير لطفل بيت لحم يطلق أسلوب حياة جديد: لا تلتهم ولا تدّخر، بل شارك وأعطِ. الله صار صغيرًا ليصبح لنا مأكلاً. وعندما نغتذي به، هو خبز الحياة، يمكننا أن نولد مجدّدًا في المحبّة ونكسر دوامة الجشع والطمع. من “بيت الخبز” يعيد يسوع الإنسان إلى البيت لكي يصبح من عائلة إلهه وأخًا لقريبه. أمام المذود، نفهم أنَّ الحبّ هو الذي يغذّي حياتنا لا الخيور، والمحبة لا الطمع، والبساطة التي ينبغي حراستها لا الوفرة التي نعرضها. إنَّ الرب يعرف أننا بحاجة لأن نتغذّى يوميًّا. لذلك قدّم لنا ذاته في كل يوم من حياته، من مذود بيت لحم إلى عليّة اورشليم. واليوم أيضًا يصبح على المذبح خبزًا مكسورًا لأجلنا: يقرع بابنا ليدخل ويتعشّى معنا. في الميلاد نستقبل على الأرض يسوع خبز السماء: إنه غذاء لا تنتهي صلاحيّته أبدًا بل يجعلنا نتذوق الحياة الأبديّة منذ الآن.
تابع البابا فرنسيس يقول نكتشف في بيت لحم أن حياة الله تجري في شرايين البشريّة. إن قبلناها فسيتغيّر التاريخ بدءًا من كلِّ فرد منا. لأنّه عندما يبدّل يسوع القلب لا يعود محور حياتي الـ “أنا” الجائع والأناني، بل يسوع الذي يولد ويحيا في سبيل المحبة. وإذ قد دعينا الليلة لنصعد إلى بيت لحم، بيت الخبز، لنسأل أنفسنا: ما هو غذاء حياتي الذي أحتاج إليه؟ هل هو الرب أم هو شيء آخر؟ ومن ثمَّ ولدى دخولنا المغارة إذ نرى في فقر الطفل رائحة الحياة الجديدة، حياة البساطة لنسأل أنفسنا: هل أحتاج فعلاً لأمور كثيرة ولوصفات مُعقّدة لكي أعيش؟ هل يمكنني أن أتخلّى عن العديد من الأمور الفائضة لأختار حياة أكثر بساطة؟ نرى في بيت لحم، بالقرب من يسوع، أشخاصًا ساروا، كمريم ويوسف والرعاة ويسوع هو خبز المسيرة، وهو لا يحب الهضم الكسول والطويل والسلبي بل يطلب منا أن نقوم بسرعة عن المائدة لنخدم، كخبز مكسور للآخرين، لنسأل أنفسنا إذًا: هل أكسر في الميلاد خبزي مع من حُرم من الخبز؟
أضاف الحبر الأعظم يقول بعد بيت لحم كبيت الخبز، نتأمّل حول بيت لحم كمدينة داود. هناك كان داود في صغره راعيًا وكراع اختاره الله ليكون قائدًا وراعيًا لشعبه. وفي الميلاد، في مدينة داود نجد الرعاة في استقبال يسوع، في تلك الليلة – يقول الإنجيل – “خافوا خَوفاً شَديداً”، لكنَّ الملاك قال لهم: “لا تخافوا!”. تتكرّر مرارًا في الإنجيل كلمة “لا تخافوا”، يبدو أنها لازمة الله الذي يبحث عن الإنسان، لأنَّ الإنسان منذ البدء، وبسبب الخطيئة أيضًا، يخاف من الله: “خفتُ فاختبأت” قال آدم بعد الخطيئة. لذلك فبيت لحم هي العلاج ضدّ الخوف، لأنّه بالرغم من الـ “لا” التي يقولها الإنسان، هناك يقول الله “نعم” على الدوام وسيكون دائمًا الله-معنا؛ ولكي لا يولِّد حضوره الخوف صار طفلاً صغيرًا. إن كلمة “لا تخافوا” لم تُوجَّه لقديسين وإنما لرعاة، أشخاص بسطاء لم يتميّزوا في ذلك الوقت بالتأكيد بالتهذيب والتقوى. لكن ابن داود يولد بين الرعاة ليقول لنا إنَّ ما من أحد سيبقى وحده بعد الآن؛ لدينا راع يتغلّب على خوفنا ويحبنا جميعًا بدون استثناء.
تابع البابا يقول يعلّمنا رعاة بيت لحم أيضًا كيف نذهب للقاء الرب. هم يسهرون في الليل: لا ينامون بل يفعلون ما سيطلبه يسوع مرات كثيرة: إسهروا. يبقون متنبِّهين وينتظرون يقظين في الظلام و”يشرق مجد الرب حولهم”. وهذا الأمر يصلح لنا أيضًا، إذ يمكن لحياتنا أن تكون انتظارًا تتّكل على الرب في ليالي المشاكل وترغب به، فتنال عندها نوره. أو حتى افتراضًا حيث ما يهمُّ فقط هي القوى والوسائل الشخصيّة، ولكن في هذه الحالة يبقى القلب مغلقًا على نور الله. يحبُّ الرب أن ننتظره، ولكن لا يمكننا انتظاره نيامًا على الكنبة. إن الرعاة في الواقع يتحرّكون، يقول النص: “جاؤوا مسرعين”. لم يراوحوا مكانهم كمن يشعر بأنه وصل وحقق مبتغاه وهو لا يحتاج لشيء بل انطلقوا، تركوا القطيع بلا حراسة وجازفوا في سبيل الله. وبعد أن رأوا يسوع، وبالرغم من أنّهم ليسوا خبراء في الكلام، انطلقوا يبشرون به “وجميع الَّذين سَمِعوا الرُّعاةَ تَعَجَّبوا مِمَّا قالوا لَهم”.
أضاف الأب الأقدس يقول الانتظار يقظين، الانطلاق والمخاطرة، والتحدث عن الجمال هذه كلها تصرفات محبّة. إنَّ الراعي الصالح الذي يأتي في الميلاد ليعطي الحياة للخراف، سيوجّه إلى بطرس، في الفصح، ومن خلاله إلينا جميعًا، السؤال الأخير: “أتحبّني؟”، ومستقبل القطيع متعلّق بهذا الجواب. هذه الليلة نحن مدعوون لنجيب ونقول له نحن أيضًا: “أحبّك”، وجواب كلِّ فرد منا هو أساسي للقطيع بأسره.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول “هَلُمَّ بِنا إِلى بَيتَ لَحم” هكذا قال الرعاة وفعلوا. نحن أيضًا يا رب نريد أن نأتي إلى بيت لحم. إنَّ الدرب اليوم أيضًا هي صعود وبالتالي ينبغي علينا ان نتخطّى قمّة الأنانية وألا نسقط في وِهاد روح العالم والاستهلاك. اريد ان أصل إلى بيت لحم يا رب لأنّك تنتظرني هناك، وأتنبّه أنّك أنت، المُضجع في مذود، خبز حياتي. أحتاج لرائحة محبّتك لأكون بدوري أيضًا خبزًا مكسورًا من أجل العالم. خذني على كتفيك أيها الراعي الصالح: إذ أحببتني يمكنني أنا أيضًا أن أحب وأمسك إخوتي بأيديهم، وسيحلُّ عيد الميلاد عندما سأتمكّن من أن أقول لك: “يا رَبّ، أَنتَ تَعلَمُ كُلَّ شَيء، أَنتَ تَعلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ حُبّاً شديداً”.
اذاعة الفاتيكان