ترأس قداسة البابا فرنسيس عصر الأربعاء في بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان القداس الإلهي ورتبة تبريك الرماد في بدء زمن الصوم المبارك وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها: توجّه كلمة الله في بدء مسيرة الصوم للكنيسة ولكل فردٍ منا دعوتين: الأولى هي دعوة القديس بولس: “نسألكم أن تصالحوا الله” (2 كور 5، 20). ليست مجرد نصيحة أبويّة أو اقتراح وحسب وإنما هي تضرّع باسم المسيح: “نَسأَلُكُم بِاسمِ المسيح أَن تُصالِحوا اللّهَ”.
تابع البابا فرنسيس يتساءل لماذا هذا النداء النابع من القلب؟ لأن المسيح يعرف كم نحن ضعفاء وخطأة، يعرف ضعف قلبنا؛ يراه مجروحًا بسبب الشرّ الذي قمنا به ويعرف على الفور مدى حاجتنا للمغفرة وبأننا بحاجة لنشعر بأننا محبوبون لنقوم بالخير. ليس باستطاعتنا أن نقوم بشيء لوحدنا ولذلك لا يطلب منا الرسول أن نفعل شيئًا وإنما أن نسمح لله بأن يصالحنا، أن نسمح له بأن يغفر لنا بثقة لأن: “الله أَكبَرُ مِن قَلبِنا” (1 يو 3، 20). هو يتغلّب على الخطيئة ويرفعنا من بؤسنا إن سلمناه إياه. يكفي أن نعترف بحاجتنا للرحمة: إنها الخطوة الأولى في المسيرة المسيحيّة؛ إنه دخول عبر الباب المفتوح أي المسيح حيث ينتظرنا هو بنفسه، المخلّص، ويقدّم لنا حياة جديدة وفرحة.
أضاف الأب الأقدس يقول قد يكون هناك بعض العوائق التي تغلق أبواب القلب. هناك التجربة “بتسليح الأبواب وتصفيحها” أو أن نتعايش مع خطيئتنا فنخفّف من ثقلها ونبرّر أنفسنا على الدوام معتقدين أننا أفضل من الآخرين؛ هكذا تنغلق أبواب النفس ونبقى منغلقين على أنفسنا سجناء الشرّ. أما العائق الآخر فهو الخجل من فتح باب القلب السرّي. إن الخجل في الواقع يشكّل علامة جيّدة لأنه يشير إلى أننا نريد أن نبتعد عن الشرّ، لكنّه لا ينبغي أبدًا أن يتحوّل إلى خوف. هناك أيضًا تجربة أخرى وهي أن نبتعد عن الباب: يحصل هذا الأمر عندما ننغلق على بؤسنا ونطيل التفكير به، فنربط الأمور السلبيّة ببعضها ونغرق في سراديب النفس الأكثر ظلامًا. فنتآلف عندها مع الحزن الذي لا نريده فنيأس ونصبح أشدّ ضعفًا أمام التجارب. هذا الأمر يحصل لأننا ننغلق على أنفسنا ونهرب من النور فيما أن وحدها نعمة الرب بإمكانها أن تحررنا. لنسمح إذًا لله بأن يصالحنا ولنصغِ إلى يسوع الذي يقول للمُرهَقينَ والمُثقَلين “تعالوا إلي”. لا تنغلقوا على أنفسكم بل اذهبوا إليه وهناك تجدون الراحة والسلام. يشارك معنا في هذا الاحتفال مرسلو الرحمة الذين سينالون اليوم الرسالة ليكونوا علامات وأدوات لمغفرة الله. أيها الإخوة الأعزاء يمكنكم أن تساعدوا في فتح أبواب القلوب وفي تخطي الخجل وعدم الهروب من النور. لتبارك أياديكم الإخوة والأخوات ولترفعهم بأبوّة؛ ولتمرّ عبركم نظرة الآب ولتُبسط يداه من خلالكم على أبنائه ولتشفي جراحهم.
تابع الحبر الأعظم يقول هناك دعوة ثانية من الله الذي يقول، بواسطة النبي يوئيل: “توبوا إِلَيَّ بكُلِّ قُلوبِكم”. إن كان يجب علينا أن نتوب فذلك لأننا قد ابتعدنا. هذا هو سرّ الخطيئة: بعدنا عن الله والآخرين وأنفسنا. ليس من الصعب علينا أن نتنبّه لهذا الأمر: بإمكاننا جميعًا أن نرى كم نتعب لنثق فعلاً بالله ونَكِلَ أنفسنا إليه كأب بدون خوف؛ وكم هو متعب أن نحب الآخرين بدلاً من أن نفكر بهم بالسوء؛ كم هو مُكلف لنا أن نصنع خيرنا فيما تجذبنا وتغرينا العديد من الأمور الماديّة التي تتلاشى في النهاية وتتركنا فقراء. إلى جانب قصة الخطيئة هذه دشّن يسوع تاريخ خلاص. إن الإنجيل الذي يفتتح الصوم يدعونا لنكون رواد هذا الزمن الليتورجي إذ نعانق ثلاثة أدوية تشفي من الخطيئة.
أضاف الأب الأقدس يقول أولاً الصلاة تعبير عن الانفتاح والثقة بالرب: إنها اللقاء الشخصي مع الرب الذي يقصّر المسافات التي تخلقها الخطيئة. أن نصلّي يعني أن نقول: “أن لا أكفي ذاتي، أنا بحاجة إليك، أنت حياتي وخلاصي”. ثانيًا المحبّة لتخطّي عدم الألفة تجاه الآخرين. في الواقع إن المحبة الحقيقيّة ليست عملاً خارجيًّا، وليست مجرّد عطاء بشكل والدي لإراحة الضمير وإنما هي قبول من هو بحاجة لوقتنا وصداقتنا ومساعدتنا. إنه عيش الخدمة متغلّبين على تجربة البحث عن إرضاء ذواتنا. ثالثًا الصوم، التوبة لنتحرّر من تعلقنا بالأمور الزائلة ونتمرّن لنكون أكثر رحمة. إنها دعوة للبساطة والمقاسمة: فنرفع شيئًا عن طاولتنا ومن خيورنا لنجد الخير الحقيقي والمُحرّر.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول: “توبوا إِلَيَّ – يقول الرب – بكُلِّ قُلوبِكم”: ليس فقط من خلال بعض الأعمال الخارجيّة وإنما من أعماق ذواتكم. في الواقع إن يسوع يدعونا لعيش الصلاة والمحبّة والتوبة بصدق وننتصر على الرياء. إن الصوم هو زمن “تشذيب” من الكذب وروح العالم واللامبالاة، فنفهم أن المهم ليس البحث عن النجاح وإنما عن نقاوة القلب والحياة فنستعيد هكذا هويتنا المسيحيّة أي المحبة التي تخدم ولا الأنانيّة التي تستَغِلّ. لنسر معًا ككنيسة محدقين النظر إلى المصلوب؛ هو الذي أحبنا، يدعونا لنسمح لله بأن يصالحنا ونعود إليه، فنجد هكذا أنفسنا.
إذاعة الفاتيكان