حلال احتفاله برتبة التوبة مع الشبان السجناء في مركز لاس غارساس في باكورا بالقرب من العاصمة باناما قارن البابا فرنسيس بين نظرة يسوع، نظرة الارتداد، ونظرة من لا يفعلون سوى الثرثرة التي تؤدي إلى الانقسام والتهميش. وأكد قداسته أننا جميعا خطأة مشددا على محبة الله للجميع.
في إطار زيارته الرسولية إلى باناما لمناسبة اليوم العالمي للشباب احتفل قداسة البابا فرنسيس قبل ظهر الجمعة بالتوقيت المحلي برتبة التوبة مع فتية سجن القاصرين، مركز لاس غارساس، في باكورا بالقرب من العاصمة باناما. وكان في استقبال الحبر الأعظم لدى وصوله رئيس أساقفة باناما ومديرة المركز. هذا وتحدث أولا أحد الشاب المحتجزين والبالغ من العمر 21 سنة، لويس أوسكار مارتينيس، مقدما شهادته. وتكلم عن حياته الصعبة حيث هجر أبوه أمه حين كان في عامه الأول لتواجه أمه معركة الحياة لتربية لويس أوسكار وشقيقه وشقيقته. وتحدث الشاب عن شعوره بفراغ في أعماقه بسبب غياب الأب وتابع أن الله قد لمس قلبه عام 2015 فقرر أن يقبل المسيح ربه ومخلصه، وهكذا أصبح لديه أب كما ذكر. إلا أنه تعثر عقب ذلك، تابع الشاب في إشارة إلى ارتكابه جريمة ما أدى إلى سجنه في نيسان أبريل 2016، وتحدث عن صعوبة فترة السجن في بدايتها، وقال إنه في إحدى الليالي عقب نقله إلى هذا المركز شعر بأن هذه ليست النهاية، وأكد لويس أوسكار بالتالي قناعته بأن الله الأب كان معه، وتحدث عن نعمة ومحبة الله التي تجعله في هذه اللحظة يتحدث إلى الأب الأقدس. وشكر الله أيضا على الأشخاص الذين يساعدونه في هذا المركز حيث تمكَّن من مواصلة الدراسة، ثم شكر البابا فرنسيس على الإصغاء إليه.
وفي عظته انطلق قداسة البابا فرنسيس من القراءة الإنجيلية من إنجيل القديس لوقا والذي يحدثنا عن تذمر الفريسيين والكتبة من تصرف يسوع “هذا الرَّجُلُ يَستَقبِلُ الخاطِئينَ ويَأكُلُ مَعَهم” (لوقا 15، 1). وقال البابا إنهم أرادوا نزع الثقة عن يسوع إلا أنهم في المقابل قد سلطوا الضوء على أحد أفعاله الأكثر اعتيادا وتميزا وجمالا، أي استقباله الخاطئين وأكله معهم، وأكد قداسته في هذا السياق أننا جميعا خطأة وعلينا أن نعترف بهذا. ثم واصل متحدثا عن يسوع الذي لا يخشى الاقتراب ممن يحملون لأسباب مختلفة ثقل الكره الاجتماعي مثل العشارين، أو ثقل خطاياهم وأخطائهم مثل الخاطئين. وقال البابا إن يسوع يفعل هذا لعلمه بأن “الفَرَح في السَّماءِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ أَكثَرَ مِنه بِتِسعَةٍ وتِسعينَ مِنَ الأَبرارِ لا يَحتاجونَ إِلى التَّوبَة” (راجع لوقا 15، 7). أما من لا يفعلون شيئا سوى الثرثرة والتذمر فيغلقون الباب أمام الارتداد والحوار مع يسوع الذي لا يخشى ما يمكن أن يقال عنه ويدعو دائما إلى النظر إلى أفق قادر على تجديد الحياة. وأكد الأب الأقدس هنا أن هناك أفقا أمام الجميع، ولمن لا يرى هذا الأفق قال قداسته: افتح النافذة فستراه، افتح نافذة قلبك، نافذة الحب الذي هو يسوع وستجد هذا الأفق.
ثم قارن البابا فرنسيس بين هاتين النظرتين المتناقضتين، وفي حديثه عن النظرة الأولى، نظرة مَن يثرثر والتي توجد اليوم أيضا، توقف قداسته عند رفض كثيرين لاختيار يسوع القرب وتوفير فرص جديدة. وقال قداسته في هذا السياق إنه من السهل منح صفات وتصنيفات لا تطبع ماضي الأشخاص فقط بل وأيضا حاضرهم ومستقبلهم، تصنيفات لا تؤدي سوى إلى التفرقة: هنا الصالحون وهنا الأشرار، هنا الأبرار وهنا الخطأة. وتابع قداسته أن يسوع لا يقبل هذا، أي ثقافة النعت وتعريف الأشخاص بالصفات، بينما اسم الشخص هو مَن هو وماذا يفعل، ما هي أحلامه وبماذا يشعر في قلبه، ودعا قداسته هنا إلى اليقظة أمام خطر السقوط في هذا التصرف. وتابع البابا فرنسيس أن هذا التصرف يرفع جدارا غير مرئي يوحي بأن التهميش والفصل والعزل تحل المشاكل بسهولة، وأضاف أن المجتمع حين يفعل هذا فإنه يدخل في حلقة مفرغة من الانقسام والتوبيخ والإدانة.
أما النظرة الأخرى، نظرة الارتداد، فهي تلك التي تميز الإنجيل بكامله وهي تولد من قلب الله الذي لا يتركنا أبدا، بل يدعونا إلى أن نتوجه إليه وينتظرنا ويعانقنا، وإن لم نعثر على الطريق يمضي في طلبنا كما يفعل الراعي مع الخروف الضال، فالرب يريد الاحتفال بأبنائه العائدين (راجع لو 15، 11-32)، وهذا ما شهد له يسوع مظهرا حتى أقصى الحدود محبة الآب الرحومة. وواصل الأب الأقدس متحدثا عن محبة لا وقت لديها للثرثرة، بل تحاول كسر دائرة النقد غير المجدي واللامبالي، محبة محايدة تقبل تعقيدات الحياة وكل وضع، محبة تطلق آلية قادرة على تقديم طرق وفرص للتكامل والتحول، الشفاء والمغفرة، دروب خلاص. ثم شدد البابا على أن يسوع بتناوله الطعام مع العشارين والخاطئين يكسر منطقا يفصل ويستبعد، منطقا يعزل ويفرق بشكل خاطئ بين صالحين وأشرار، ولا يقوم يسوع بهذا من خلال مراسيم أو بالنوايا الطيبة فحسب، بل بخلق روابط قادرة على توفير مسيرات جديدة. وتابع الأب الأقدس أن يسوع قد كسر ثرثرة يصعب اكتشافها، ثرثرة تمزق الأحلام لأنها تكرر بشكل متواصل: لن تتمكن. وحذر البابا فرنسيس من هذه الثرثرة الداخلية التي تظهر لدى من يبكي بسبب خطيئته ويعي خطأه لكنه لا يؤمن بالقدرة على التغيير. وذكّر البابا الجميع بأن الإنجيل يحدثنا عن أن أحد عشرا من التلاميذ الاثني عشر ارتكبوا خطايا كبيرة، فمنهم من ترك المعلم ومن أنكره ومن خانه، إلا أن يسوع قد بحث عنهم واحدا واحدا وهم مَن غير العالم. يجب بالتالي، وانطلاقا من محبة يسوع هذه حتى بعد الخيانة، تفادي السقوط في الاعتقاد بعدم وجود أمل.
وانطلاقا من نظرة يسوع هذه قال البابا فرنسيس للحضور إن كل واحد منا هو أكثر من التصنيف الذي يحمله والصفات التي يمنحوننا إياها والإدانة الصادرة ضدنا، وهذا ما يعلمنا إياه يسوع وما يدعونا إلى أن نؤمن به. ودعا قداسة البابا في هذا السياق إلى عدم الإصغاء إلى الثرثرة بل إلى الأصوات التي تحفزنا على النظر إلى الأمام لا تلك التي تجذبنا إلى الأسفل.
ثم توقف البابا فرنسيس عند الرجاء المسيحي الذي يولد من اختبارنا نظرة الله هذه، والتي يقول لنا جميعا عبرها إننا جزء من عائلته وإنه لن يتركنا بل هو معنا. وذكّر قداسته هنا بشهادة الشاب لويس أوسكار مارتينيس، وأكد للجميع أنهم جزء من العائلة ولديهم الكثير مما يمكن تقاسمه. تحدث البابا أيضا عن أن المجتمع غير القادر على الاحتفال بتحول أبنائه هو مجتمع يمرض، بيننا المجتمع الخصب هو ذلك الذي يخلق آليات قادرة على الدمج وخلق فرص وبدائل توفر إمكانيات لأبنائه.
وفي ختام عظته حلال الاحتفال برتبة التوبة في سجن القاصرين، مركز لاس غارساس، في باكورا بالقرب من العاصمة باناما قبل ظهر الجمعة بالتوقيت المحلي، شجع البابا فرنسيس الجميع على العمل معا من أجل العثور على سبل الدمج والتغير. وذكَّر بأن الله لا يصنِّف، بل يهبنا بنظرته القوة لنفي الثرثرة وخلق تحالفات أخوية تمَكن حياتنا من أن تكون دائما دعوة إلى فرح الخلاص.
اذاعة الفاتيكان