في إطار زيارته الرسولية إلى بوليفيا، احتفل البابا فرنسيس، صباح الخميس، بالقداس الإلهي في مدينة سانتا كروز بحضور حشد غفير من المؤمنين.
وتخللت الاحتفال الديني عظة للبابا قال فيها:
لقد أتينا من أماكن ومناطق وبلدات مختلفة لنحتفل بحضور الله الحي بيننا. خرجنا منذ ساعات من بيوتنا وجماعاتنا لنكون معًا كشعب الله المقدّس. يحمل لنا الصليب وصورة الرسالة ذكرى كلِّ الجماعات التي وُلدت باسم يسوع في هذه الأراضي التي نحن ورثتها.
إن الإنجيل الذي سمعناه يصف لنا حالة تُشبه الحالة التي نعيشها الآن. فكهؤلاء الأربعة آلاف شخص نحن أيضًا نريد أن نسمع كلمة يسوع وننال حياته. هم في الأمس ونحن اليوم مجتمعون مع المعلّم، خبز الحياة.
لقد رأيت، خلال هذه الأيام، العديد من الأمهات اللواتي يحملن أبناءهنَّ على أكتافهنَّ. كما تفعلنه هنا كثيرات منكنَّ. يحملن الحياة على أكتافهنَّ ومستقبل شعبهنَّ. يحملن أسباب أفراحهنَّ ورجائهنَّ. يحملن بركة الأرض في الثمار. يحملن عمل أيديهنَّ. أيادٍ زرعت الحاضر وستنسج أحلام الغد. ولكنهن يحملن على أكتافهنَّ أيضًا خيبة الأمل والحزن والمرارة والظلم الذي يبدو أنه لن يتوقّف، ونَدباتُ عدالة لن تتحقّق. وأنتن إذ تحملن على أكتافكنَّ فرح أرضٍ وألمها تحملن أيضًا ذاكرة شعبكنَّ. لأن الشعوب تملك ذاكرة، ذاكرة تنتقل من جيل إلى جيل، ذاكرة تسير.
وليست قليلة المرات التي نختبر فيها تعب هذه المسيرة. ليست قليلة المرات التي تنقصنا فيها القوة لنحافظ على شعلة الرجاء مُتَّقدة. كم من مرّة نعيش أوضاعًا تخدِّر ذاكرتنا فيضعف هكذا الرجاء ونفقد دوافع الفرح. فيبدأ الحزن بالسيطرة علينا ويتحوّل إلى فردانيّة تجعلنا نفقد ذاكرة الشعب المحبوب والمختار. وهذه الخسارة تُبدِّدنا وتجعلنا ننغلق على الآخرين ولاسيما على الأشد فقرًا.
يمكن أن يحصل لنا ما حصل مع التلاميذ في الأمس، عندما رأوا كميّة الناس الحاضرين. فطلبوا من يسوع أن يصرفهم لأنه يَصعُب إطعام هذا العدد من الناس. فإزاء العديد من حالات الجوع في العالم يمكننا القول: “هناك ثغرات ما” من الصعب مواجهة هذه الأوضاع وبالتالي يتغلَّب اليأس على قلبنا.
وفي قلب يائس من السهل جدًّا أن يستقر المنطق الذي يحاول أن يسيطر في عالم اليوم. منطق يبحث عن تحويل كل شيء إلى غرض للمساومة والاستهلاك، فكل شيء قد أصبح قابلاً للتداول. منطق يحاول أن يترك مكانًا لأقليّة قليلة ويستبعد جميع الذين لا “يُنتجون”، والذين لا يعتبرهم جديرين أو مستحقّين لأنه وكما يبدو “هناك ثغرات ما”. لكن يسوع يعود مرّة أخرى ليكلمنا ويقول لنا: لا حاجة بهم إلى الذهاب. أعطوهم أنتم ما يأكلون.
إنها دعوة يتردّد اليوم صداها بقوة: لا حاجة بأحد إلى الذهاب، كفى إقصاء، أعطوهم أنتم ما يأكلون”. ويسوع لا يزال يقول لنا في هذه الساحة، نعم كفى إقصاء، أعطوهم أنتم ما يأكلون. إن نظرة يسوع لا تقبل منطقًا ونظرة “تقطع الخيوط” على الدوام للأشد ضعفًا وعوزًا. وإذ يأخذ الأمر على عاتقه يعطينا المثل ويُظهر لنا الدرب. موقف في ثلاث كلمات: أخذ القليل من الخبز وبعض الأسماك، وبارك وكسر الأرغفة وناولها التلاميذ فوزَّعوها على الآخرين. هذه هي مسيرة المعجزة. ليست سحرًا بالطبع ولا عبادة أصنام. فيسوع، ومن خلال هذه الأفعال الثلاثة يتمكَّن من تحويل منطق الإقصاء إلى منطق شركة وجماعة. وبالتالي أرغب بالتوقف باختصار عند كل من هذه الأفعال.
أخذ. نقطة الانطلاق، هي أخذ حياة خاصته على محمل الجدّ. ينظر إلى عيونهم ويعرف حياتهم ومشاعرهم. ويرى من خلال هذه النظرات ما ينبض وما توقفت نبضاته في ذاكرة وقلب شعبه. فيأخذه بعين الاعتبار ويقيّمه. يُقيِّم كل الصلاح الذي بإمكانهم أن يساهموا به وكل الصلاح الذي يمكن بناؤه. لكنه لا يتحدث عن الأشياء والخيور الثقافية أو الأفكار وإنما عن الأشخاص. فالغنى الأكبر في مجتمع ما يُقاس من خلال حياة أناسه، من خلال المسنين الذين يمكنهم أن ينقلوا الحكمة والذاكرة لشعبهم وللصغار. فيسوع لا يسلب أحدًا كرامته، حتى ولو بدا ظاهريًّا أنه لا يملك شيئًا ليقدّمه أو ليتشارك به.
بارك. إن يسوع يأخذ الأمر على عاتقه ويبارك الآب الذي في السماوات. يعرف أن هذه العطايا هي هبة من الله. لذلك لا يتعامل معها كما ولو كانت “مجرّد أشياء” لأن الحياة بأكملها هي ثمرة الحب الرحيم. وهو يعترف بهذا الأمر، وبالتالي هو يذهب أبعد من المظاهر الصرفة، وفي فِعلِ المُباركة والتمجيد يطلب من أبيه عطيّة الروح القدس. فالبركة تملك هذه النظرة المزدوجة، فهي تشكر من جهة وتحوِّل من جهة أخرى. إنها اعتراف بأن الحياة هي عطيّة على الدوام، هدية إذا وضعت بين يدي الله تكتسب قوة التكاثر. فإن أبانا لا ينتزع منا شيئًا بل يكثِّر كل شيء.
ناول. في يسوع لا يوجد أخذ بدون بركة، ولا وجود لبركة بدون أن تُمنح وتُعطى. فالبركة هي رسالة على الدوام، ولديها وجهة: مشاركة ومقاسمة ما نلناه، إذ إنه في العطاء فقط وفي المشاركة يمكن للأشخاص أن يجدوا مصدر الفرح وخبرة الخلاص. إنه عطاء يرغب بإعادة بناء ذاكرة الشعب المقدّس والمدعو ليكون حاملاً لفرح الخلاص. فاليدان اللتان يرفعهما يسوع ليبارك إله السماوات، هما اليدان عينهما اللتان توزِّعان الخبز للجمع الجائع. يمكننا أن نتصور كيف كانوا يمرّرون الخبز والسمك من يد إلى أخرى وصولاً إلى البعيدين. فيسوع قد تمكن من خلق تيار بين خاصته، كانوا جميعهم يتقاسمون ما يملكون محوِّلينه إلى عطية للآخرين وهكذا أكلوا كلهم حتى شبعوا، وكان الفائض لا يصدَّق: ورفعوا ما فضل في سبع سلال. فالذاكرة التي تُؤخَذ وتبارك وتعطى تشبع الشعب على الدوام.
الافخارستيا هي “خبز مكسور لحياة العالم”، كما يقول موضوع المؤتمر الافخارستي الخامس الذي نفتتحه اليوم والذي سيُعقد في “تاريخا” (Tarija). إنها سرّ شركة يجعلنا نخرج من الفردانيّة لنعيش الإتّباع معًا وتعطينا اليقين بأن ما نملكه وما نحن عليه قد أُخذ وتبارك وأُعطي وبقوة الله وقوة محبّته سيتحول إلى خبز حياة للآخرين.
الكنيسة هي جماعة تتذكّر. ولذلك وبأمانة لوصية الرب تقول اليوم ودائمًا: “اصنعوا هذا لذكري” (لوقا 22، 19)، وتجدد جيلاً بعد جيل، في مختلف أنحاء أرضنا، سرّ خبز الحياة. تجعله حاضرًا لنا وتعطينا إياه. إن يسوع يريدنا أن نشاركه حياته ومن خلالنا هو يتكاثر في مجتمعنا. فنحن لسنا أشخاصًا منعزلين ومنفصلين، وإنما شعب الذكرى المتجدّدة والمعطاة على الدوام.
إن الحياة التي تتذكّر تحتاج للآخرين وللتبادل واللقاء، لتضامن حقيقي قادر على الدخول في منطق الأخذ والمباركة والعطاء؛ في منطق الحب. ومريم، التي ككثيرات منكنَّ قد أخذت على عاتقها ذاكرة شعبها وحياة ابنها واختبرت في ذاتها عظمة الله معلنة بفرح بأنه “يُشبع الجياع خيرًا” (لوقا 1، 53)، فلتكن هي اليوم مثالنا للثقة في صلاح الرب الذي يصنع العظائم بتواضع خدامه.
إذاعة الفاتيكان