كتبت هيام القصيفي في موقع الاخبار :”خرج كاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس آرام الأول كيشيشيان من رحم المعاناة التي عاشها الشعب الأرمني بسبب المجازر التركية. هو ابن جيل يعرف حجم المأساة السياسية والأمنية والاجتماعية ومعاناة الفقر والجوع، التي عاشتها العائلات الأرمنية التي وجدت في لبنان ملجأ لها من الاضطهاد. ولأن لبنان استقبل الأرمن المشردين الهاربين من المجازر، بادل هؤلاء لبنان بانتمائهم إليه، رغم حفاظهم على خصوصيتهم، واحترموه وأحبّوه. لهذا البلد، الذي يعيش آرام الأول مأساته المستمرة منذ سنوات، ويعرف تماماً كيف يعيش أبناؤه من انهيار على كل المستويات، حاول رد الجميل، عبر مبادرته واستخدام صداقته بالبابا وعلاقاته في الفاتيكان، لعقد مؤتمر لبطاركة لبنان في الأول من تموز المقبل. يقدّر البابا فرنسيس البطريرك آرام الأول، لتقواه والتزامه الديني، وأفكاره وعمله وثقافته. باختصار، يحتفظ له بمكانة نابعة من شخصيته العميقة والمتزنة والورعة. ولأن البداية جاءت من لدن بطريرك بهذه المواصفات، لم يكن ليبادر لو لم ير حجم الانهيار المصيري وضآلة حجم العمل لوقفه، لا يمكن توقع مؤتمر «ترويجي» لأفكار سياسية بدائية وبشعارات فارغة من المضمون. فماذا يريد البابا فرنسيس من المؤتمر؟
بحسب المعلومات، فإن البابا لا يريد أن يسمع من البطاركة مطالبهم السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. يعرف الحبر الأعظم كل ما يدور في لبنان، وتحفظ دوائر الفاتيكان غيباً الاختلافات والنقاشات السياسية وما يدور في المؤسسات الرسمية والدينية، وكل التفاصيل المتعلقة باليوميات السياسية والمالية والاقتصادية. لذا لا يريد أن يسمع مطالبات بالتدخل أو المساعدة أو الاستعانة به (ولا حتى الرهان عليه للتأثير على إدارة الرئيس جو بايدن الكاثوليكي) على عقد مؤتمرات أو حوارات دولية أو طرح أي اقتراحات من هذا القبيل. فالفاتيكان في هذا المؤتمر لا يريد سوى رفع مستوى النقاش، لأن ما يصبو إليه البابا فعلياً من خلال دعوته القادة الروحيين، هو أن يسمع منهم جميعاً رؤيتهم للبنان تحت عنوان له بُعد آخر: «ماذا يريد المسيحيون من لبنان، وماذا تريدون له، وماذا تفعلون له؟». تكمن بساطة هذه الفكرة، في أنها عميقة بمدلولاتها وتأثيراتها المستقبلية، لأنها بمثابة هزة ضمير المسؤولين الروحيين، في التفكير جدياً ماذا يقدمون لوطنهم. فالمسيحيون الذين كانت لديهم رؤية للبنان في ماضيه وحاضره، وكان ولا يزال لهم دور أساسي فيه، يفترض أن يكون لديهم رؤية مستقبلية عن الوطن الذي يريدونه، بعيداً عن أي أفكار سياسية أو دستورية ونقاشات تفصيلية داخلية. والفاتيكان لا يدخل في زواريب السياسة الداخلية، لأن الأهم بالنسبة إليه هو صورة لبنان ومستقبله، وأيّ صورة يريدها المسيحيون له. لذلك شاء الاستماع الى وجهات النظر كلها، مع الإشارة الى أن الحاضرين من الطوائف المسيحية، لم يكونوا حاضرين في لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع القيادات السياسية في قصر الصنوبر، ولم يتم التعبير عن رأيهم. أما في الفاتيكان، فلهذه الطوائف المسيحية على اختلافها كاثوليكية وأرثوذكسية، ومنها الأقليات، الفرصة المناسبة للمبادرة في التعبير عن رأيها في أي لبنان تريده طوائفها بعيداً عن أي حصرية سياسية أو دينية. وهنا يكمن التحدي أمام بطاركة ستسنح لهم الفرصة ليقولوا رأيهم من دون مواربة فيكونوا على قدر تطلّعات كنائسهم. وإلا سيكونون قد فوّتوا فرصة استثنائية من خلال مؤتمر كنسي جامع بهذا الحجم والرهان البابوي عليه.
العنوان الثاني بمثابة «هز العصا» للطوائف المسيحية، لأن أمام الفاتيكان بُعدين أساسيين في الترجمة العملية لدور المسيحيين في الأزمة التي يعيشها لبنان، وهما القطاع الصحي والقطاع التعليمي، اللذان يُعدّان «وجه لبنان الحضاري». وللطوائف المسيحية حضور قوي وفاعل يمثّل الأكثرية في هذين القطاعين، لا بل إن هيمنة المسيحيين عليهما واضحة منذ سنوات طويلة. لكن هذين القطاعين يشهدان انهياراً متزايداً في الأشهر الاخيرة. ورغم أن أسباب الانهيار مردها الواقع المالي المتدهور، إلا أن البابا يريد أن يعرف ماذا فعلت المؤسسات الدينية حتى الآن، وما هي خطتها لإبقاء المؤسسات التربوية من مدرسية وجامعية ومن مستشفيات ومؤسسات رعاية صحية، على قيد الحياة، وماذا تفعل القيادات الروحية، إزاء هذا التدهور. أهمية هذا المحور أن الفاتيكان مدرك تماماً أنه في موازاة طلب المساعدات المستمر والشكاوى الكثيرة طلباً للإغاثة، يفترض أن تكون هناك هيكلية جدية ورؤية واضحة لكيفية إبقاء المؤسسات التربوية والطبية قائمة وقادرة على تأمين العلم والاستشفاء للناس، ولا سيما أن المؤسسات الكنسية قادرة وفاعلة ولديها علاقات على أكثر من مستوى مالي واقتصادي واجتماعي، وهي بنَت هذين القطاعين منذ عشرات السنين، ولا يجوز ألّا يكون لديها خطة موازية لمنع الانهيار الذي حصل في أقل من سنة. وهذا المحور يمثّل فعلياً أهمية كبرى، في ضرورة الحفاظ على المؤسسات التربوية والصحية وحق الناس في الحصول على تعليم راقٍ وطبابة لائقة. والكنائس مدعوّة بمؤسساتها الكنسية والرهبانية، وقبل أن تطلب مساعدات، إلى تحمّل مسؤولياتها، وتقديم كشف حساب: ماذا تفعل لإنقاذ هذين القطاعين؟”