لطالما رفع المسيحيون على اختلاف طوائفهم الصلوات من أجل وحدة الكنيستين الغربية والشرقية وتجاوز خلافات التاريخ. اليوم ومع احتدام الازمة الوجودية للمسيحيين في الشرق الذين يتعرضون للاضطهاد والاقتلاع مع تزايد الاصوليات وشيوع الفكر التكفيري، باتت الحاجة الى الحوار المسيحي – المسيحي أشد إلحاحاً. فهل يكون اللقاء التاريخي المقرر اليوم بين البابا فرنسيس وبطريرك موسكو وكل الروسيا كيريل في كوبا خطوة أولى لرأب الصدع؟
عندما زار البابا فرنسيس كوبا في أيلول الماضي، قال لدى وصوله الى مطار هافانا إن كوبا أرخبيل ذو أهمية استثنائية باعتبارها مفتاحا بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب ودورها الطبيعي هو أن تكون جسر التقاء كي تجتمع كل الشعوب في الصداقة.
في حينه لم يخطر ببال أحد أن كلماته تلك كانت اشارة محتملة الى مشروع لقاء تاريخي يضمّه وبطريرك موسكو وكل الروسيا كيريل، سيكون الاول للكنيستين في آلاف السنين، منذ الانشقاق الكبير عام 1054، وقد يكون خطوة تاريخية نحو رأب صدع بين الجناحين الشرقي والغربي للمسيحية.
اصطُلح على اعتبار عام 1054 تاريخ انفصال الكنيستين الشرقيّة والغربيّة عقب المشادة بين بطريرك القسطنطينية كارولاريوس والموفد البابوي الكاردينال اومبرتو. بيد أن القطيعة بين الكنيستين لم تكن بنت ساعتها ولا صنع رجل واحد، فقد سبقتها خضات ومشاكل كبيرة وتباعد بين العالمين الشرقي والغربي وهيّأت لها أزمات ومشادات متعدّدة. ومع أن انشقاق 1054 كانت له علاقة بسلطة الكنيسة، فان المشاكل بين الجانبين كانت كنسية أكثر منها لاهوتية.
على مر العقود والسنين، حصلت محاولات جدية للوحدة، أبرزها ما عرف بـ”اتحاد ليون” و”اتحاد فلورنسا”، الا أنها كلها منيت بالفشل. وكان التباعد يضيق حيناً ويتزايد أحياناً. حتى أنه نُقل عن دوق نوتاراس الكبير الذي كان المسؤول الثاني في القسطنطينية قوله عام 1453: “رؤية عمامة السلطان في هذا المكان أفضل عندي من رؤية قبعة الكاردينال أو تاج البابا المثلث”.
جهود عمرها سنوات وعقود
الاعلان عن اللقاء الذي صدر في روما وموسكو في الخامس من شباط الجاري عن لقاء هافانا ليس إلاّ ثمرة جهود مستمرة منذ زمن طويل. البعض يقول إنها تعود الى آلاف السنين، فيما يردها آخرون الى عشرين سنة، أي منذ المحاولة الفاشلة للبطريرك الروسي الراحل أليكسيس الثاني والبابا الراحل يوحنا بولس الثاني للالتقاء في جنيف عام 1996.
في حينه كانت البطريركية الروسية تأخذ على الكرسي الرسولي رعايته أتباع الكنيسة الكاثوليكية اليونانية الوحدوية في أوكرانيا الذين تتهمهم بالاستيلاء على مئات الكنائس الأرثوذكسية التابعة لها، كما تندّد بسياسة “التبشير” التي يعتمدها الفاتيكان في مناطق تابعة تقليدياً للكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
هذا الأمر تحديداً أطاح لقاء أليكسيس الثاني ويوحنا بولس الثاني الذي رفض مناقشة هذا الموضوع أو التنديد به.
أوكرانيا أيضاً ستكون اليوم، كما يرى مدير مركز الدراسات المسيحية – الاسلامية في جامعة البلمند الاب جورج مسوح، الموضوع الرئيسي في القمة التاريخية. ويقول إن موضوع مسيحيي المنطقة قد يكون حاضراً في الجانب الانساني، مستبعداً أية مبادرة قد تظهر البابا مؤيداً للتدخل الروسي العسكري في سوريا.
كواليس اللقاء التاريخي
صحيفة “لا كروا” الفرنسية نشرت كواليس اللقاء التاريخي المقرر اليوم، وقصة اجتماعات سرية بين موسكو وروما ناقشت طويلاً وفي أدق التفاصل البيان الذي سيوقّعه الحبران في هافانا.
ففي 12 تشرين الثاني 2013، نقل مدير العلاقات الخارجية في بطريركية موسكو المتروبوليت هيلاريون الى البابا فرنسيس رغبة كيريل في عقد لقاء. وبعد ذلك بشهر، سافر رئيس المجلس البابوي لتشجيع الوحدة بين المسيحيين الكاردينال كورت كوش الى موسكو حيث أمضى خمسة أيام.
كتابة النص المؤلف من ست صفحات شغل الكاردينال كوش والمتروبوليت هيلاريون منذ 2014. كل كلمة كانت تزان وتعدّل وتستبدل الى حين التوصل الى تسوية.
كان الكاردينال السويسري يقدم تقاريره الى البابا وحده. لا امانة سر الفاتيكان ولا السفراء البابويون ولا السفراء ولا اساقفة الدول المعنية كانوا يخطرون بهذه المفاوضات الديبلوماسية – الاسقفية التي كانت تجرى في سرية تامة. وكان الجانب الروسي يرفض المراسلات عبر الانترنت خوفا من تسرب معلومات. لذلك، كانت استعادة مفتاح “يو اس بي” تتطلب القيام برحلة ذهاب وإياب بين روما وموسكو.
ولكن في الجوهر، يبدو أن ثمة رغبة في إحراز تقدم. فبعدما كانت العلاقات بين الفاتيكان وموسكو متوترة في أكثر الاحيان في ظل حبرية يوحنا بولس الثاني، استعادت الدفء مع بينيديكتوس الـ16 الذي تقدر الكنيسة الروسية استقامته الاخلاقية.
ومع فرنسيس اختلف الامر كثيراً. وتقول “لاكروا” إن كيريل رأى فيه طينة الراعي. وما جعل هذا اللقاء ممكناً في رأي الخبير في السياسات الروسية كيريل نورزانوف، الاقتناع السائد في موسكو بأن هذا الحبر الاعظم ليس بحماسة البابا يوحنا بولس الثاني لسياسة التبشير، وأنه سيفاوض في الشأن الاوكراني بصدق.
النزاع الاوكراني
العائق الخارجي الاخير كان الحرب في أوكرانيا حيث يتواجه تحديداً أعضاء من البطريركية الروسية وآخرون يونانيون كاثوليك مرتبطون بروما.
في هذا النزاع، اتخذ الفاتيكان موقفاً محايداً في قراءته للنزاع.حافظ على الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي استقبل مرتين في الفاتيكان خلال هذه الفترة.
بالنسبة الى نورزانوف، يخدم لقاء البابا والبطريرك الرئيس الروسي كثيراً، إذ يؤكد مجددا أن موسكو ليست دولة مارقة، وأنها عضو أساسي في المجتمع الدولي.
ومع ذلك، تقول “لاكروا” إن اللقاء ظل مهدداً حتى لحظة الاعلان عنه في الخامس من شباط، “خوفا من أن يؤدي الى انشقاق بين الارثوذكس أنفسهم”.
لماذا كوبا؟
والسؤال الذي حيّر كثيرين يتعلق بسبب عقد اللقاء في كوبا تحديداً. البعض رأى أن اختيار مكان بعيد من أوروبا يرمي الى طمأنة الارثوذكس الاكثر اعتراضا على ما تمثله القارة القديمة في نظرهم من معرض مهين لدينهم المسيحي.
الناطق باسم الفاتيكان فيديريكو لومباردي صرح بأن “البحث كان عن مكان محايد لهذا اللقاء”. لكن الواضح أن لكيريل علاقة خاصة بكوبا، حيث كرس شخصياً كبرى الكاتدرائيات الارثوذكسية في هافانا، كما تربطه علاقة شخصية بالزعيم الكوبي المتقاعد فيديل كاسترو. ولا شك في أنه سيكون مرتاحاً أكثر في أميركا اللاتينية الأكثر تديناً من أوروبا. كما أن الدولة الشيوعية ستشعره الى حد ما بأنه في بيته. أما البابا الارجنتيني فهو ابن أميركا اللاتينية وقد دشن الانفتاح الاميركي على الجزيرة.
… ثمة اجماع على أن مجرد حصول اللقاء يعتبر خطوة تاريخية، وأن الوحدة لا تزال بعيدة. ومن يسأل عن احتمال توحيد عيد الفصح، يجيبه الأب مسوح بأن الأمر مؤجل وليس على جدول الاعمال اصلاً، لأن الروس مصرّون على عدم تقديم تنازلات في هذا المجال.
موناليزا فريحة
النهار