وجّه البابا للمؤتمرين خطاباً استهله مشيرا إلى أن البحر الأبيض المتوسط كان على الدوام وما يزال مكانا للعبور والتبادل وللصراعات أحياناً، ويشكل اليوم أيضا فسحة جغرافية تطرح سلسلة من المسائل غالبا ما تكون مأساوية، وشدد على أن مواجهة هذه المشاكل والتحديات تتطلب قيام “لاهوت الضيافة” الذي يرمي إلى تطوير حوار أصيل وصادق كي نتمكن، بواسطة السلام، من بناء مجتمع أخوي يشمل الكل، ومن حماية الخليقة أيضا. وأشار البابا فرنسيس إلى عنصرين هامين أولا الحوار، ثم إعلان المسيح المائت والقائم من الموت، وهما يشكلان معيار تجديد الدراسات لقيام كنيسة تجعل من الكرازة بالإنجيل محوراً لنشاطها. وذكّر المؤتمرين بأن الحوار هو قبل كل شيء أداة للتمييز والإعلان، وهو قادر على التعامل مع كل أبعاد الحياة البشرية. ولفت في هذا السياق إلى أن القديس فرنسيس الأسيزي يعلّمنا كيف يمكن التوفيق بين الحوار وإعلان الإنجيل، من خلال الشهادة لمحبة الله تجاه جميع البشر. وهذا الأمر يتطلب وداعة الروح، أي يقتضي نمط حياة بعيدا عن الرغبة في التفوّق على الآخر، وعن محاولات الاقتناص. واعتبر أن الحوار مع الأشخاص وثقافاتهم ينبغي أن يشكل أيضا الشهادة لغاية التضحية بالذات، تماماً كما فعل أشخاص عديدون شأن Charles de Foucauld ورهبان تيبحيرين وأسقف وهران Pierre Claverie وغيرهم.
بعدها شدد البابا على أن هذا الحوار يُنسج من خلال تشجيع طلاب كليات اللاهوت على اتباع دورات دراسية في اللغة والثقافة العربية والعبرية لأن هذا الأمر ضروري من أجل تنمية وتطوير العلاقات مع اليهودية والإسلام، من خلال فهم الجذور المشتركة والاختلافات على حد سواء. وأضاف البابا أنه فيما يتعلق بالعلاقات مع المسلمين إننا مدعوون إلى الحوار من أجل بناء مستقبل مجتمعاتنا ومدننا، وينبغي أن نعتبر المسلمين شركاء لنا من أجل بناء تعايش سلمي، حتى عندما تقع أحداث خطيرة تنفذها مجموعات متعصبة معادية للحوار. أما على صعيد العلاقات مع اليهود فلا بد أن نعزز الحوار معهم كي نعيش العلاقات الثنائية بصورة أفضل في المجال الديني. وذكّر بأن البحر الأبيض المتوسط يشكل جسراً بين أوروبا وأفريقيا وآسيا، وفسحة يمكن أن نبني فيها خيمة السلام الكبيرة التي يعيش فيها الأبناء المشتركون لإبراهيم.
هذا ثم أطلق البابا برغوليو نداء موجها إلى اللاهوتيين بنوع خاص مؤكدا أن هؤلاء مدعوون إلى ملاقاة الآخر وإلى أن يكونوا رجالا ونساء يتميزون بالرأفة ويتأثرون بحياة الأشخاص الذين يعانون من القمع والعبودية المعاصرة والآفات الاجتماعية والعنف والحروب وأوضاع الظلم الخطيرة التي يواجهها العديد من الفقراء المقيمين على ضفتي بحرنا المشترك. وأكد فرنسيس أنه بدون الشركة والرأفة اللتين تتغذيان باستمرار بواسطة الصلاة، لا يفقد اللاهوت روحَه وحسب، بل يفقد ذكاءه أيضا وقدرته على النظر إلى الواقع من وجهة نظر مسيحية. ولم يخل خطاب البابا من التنديد بالمواقف العدائية والحربية والاستعمارية من أجل تبرير الحروب والاضطهادات التي تمارس باسم الدين. وأكد أن الحوار الذي تقوده الرحمة يمكنه أن يساعد على إعادة قراءة هذا التاريخ، كي تظهر نبوءات السلام التي ينشرها الروح القدس.
تابع البابا كلمته مشيراً إلى أهمية أن يكون اللاهوت متضامناً مع جميع المنبوذين في التاريخ. واعتبر أن المسيحية في الغرب وبعد أن تعلّمت الكثير من أخطاء الماضي يمكنها أن تعود إلى ينابيعها على أمل أن تشهد للبشرى السارة وسط شعوب الشرق والغرب والشمال والجنوب ولفت فرنسيس إلى أن اللاهوت يمكنه أن يساعد الكنيسة والمجتمع المدني على مزاولة السير برفقة العديد من الأشخاص المنبوذين، وتشجيع شعوب المتوسط على نبذ كل ميل نحو التسلط على الآخر أو التقوقع ضمن الهوية الذاتية. ورأى البابا أن اللاهوت مدعو اليوم إلى بلوغ الضواحي، لا الجغرافية وحسب إنما الفكرية أيضا، ومن هذا المنطلق لا بد أن يعمل اللاهوتيون على تعزيز التلاقي مع ينابيع الوحي والتقليد، وقال إن الخلاصات اللاهوتية في الماضي هي كنز من الحكمة اللاهوتية، لكن لا يمكن تطبيقها بشكل تلقائي في السياقات الحالية. لا بد أن نكتنز هذه الخلاصات كي نبحث عن سبل جديدة ونعمل من أجل “عنصرة لاهوتية” تسمح لرجال ونساء زماننا أن يصغوا بلغتهم الخاصة إلى تأمل مسيحي يتجاوب مع بحثهم عن معنى حياتهم وملئها.
وهذا الأمر – مضى البابا يقول – يتطلب الانطلاق مجددا من إنجيل الرحمة لأن اللاهوت يبصر النور وسط أناس حقيقيين الذين يبحث عنهم الله بمحبة. على اللاهوتيين الصالحين أن يعيشوا وسط الناس، ويضمدوا جراحاتهم كما ينبغي أن يكون اللاهوت تعبيراً عن كنيسة تكون “مستشفى ميدانياً”، تعيش رسالتها من أجل خلاص العالم وشفائه. في ختام كلمته شدد البابا على الحاجة اليوم إلى “حرية لاهوتية” لأنه بدون إمكانية اختبار سبل جديدة لا نصنع أي جديد، كما ينبغي أن يوجَّه كل شيء نحو تعزيز مشاركة الراغبين في دراسة اللاهوت، من إكليريكيين ورهبان وعلمانيين، في تطوير الحوار والضيافة. وأكد أنه يتعين على اللاهوت، وبعد الدستور الرسولي “فرح الحقيقة”، الدخول في حوار مع الثقافات والأديان لبناء التعايش السلمي بين الأشخاص والشعوب.
اخبار الفاتيكان