اصطلاح “البارادايم” معناه مجموع ما لدى الإنسان من خبرات ومعلومات ومكتسَبات ومعتقدات وثقافة حياة؛ ترسم حدود تفكيره. أﻱ أنها (نظارة العقل) أو نظام التفكير والعدسات التي يرى بها الإنسان واقع حياته. والبارادايم يتغير من شخص لآخر، بل ويتغير بالنسبة للشخص نفسه من مرحلة لأخرى.
كل إنسان له صورته الخاصة -(بارادايم خاص به)- التى يدرك بها الأمور ويقيِّمها. فالعقل مثل الباراشوت يعمل بشكل رائع عندما يكون منفتحًا طيِّعًا قابلاً للحوار والانفتاح للإبداع وللخروج من النمطية، ومن شرنقة الذاتية؛ كي ينتقل نحو ما هو أفضل.
والبارادايم عند الإنسان المسيحي؛ تتأسس لغة خبرته البشرية على لغة الكلمة الإلهي (اللوغوس) معلم الأسرار وطبيب النفس والجسد والروح؛ الذﻱ كلمته تفتح عيون النفس فتبصر، وتتنفس رائحة حياة محيية أبدية، بأكتساب الحكمة النازلة من عند أبي الأنوار، حكمة مصفاة تمتحن كل شيء لتتمسك بالحسن (١تس ٥ : ٢١). ذلك الحسن الذﻱ يختاره ليسلك فيه ويتدرب عليه، حتى يستريح الله فيه ويرى كل شيء من يد الله ولله ولأجله؛ بسراج العين البسيطة التي تجعل كل شيء هيِّنًا.
البارادايم يعني لنا كمسيحيين أن يصنع الداخل مسيحيًا، ليجعل من غير المنظور منظورًا ومعاشًا في مهارة الحياة، التى تحوِّل فينا معرفة الحكمة الذهنية إلى أعمال سلوكية نامية؛ وفق نظرتنا لما يدور حولنا وفينا. فتكون حياتنا العملية ترجمة لبناء نفوسنا وتقدُّمها وإصلاحها “أتيتُ لتكون لهم حياة؛ ولتكون هذه الحياة أوفر وأفضل”.. أمَّا الجاهل السالك بجهالة؛ هو الذﻱ يتجنب الفهم. والمستهزئ والمتهوِّر هما اللذان يسخَران ويستخفَّان بغيرهم؛ رافضين التوبيخ، وسالكين بتكبر وهوًى. كذا الأحمق والمتمرد فهما يكرهان المعرفة؛ ويتحدثان باللهو؛ ثائرين مستهينين بكل تعليم وخبرة وتنظيم.
تتمحور حياة الإنسان في مجملها؛ حول اتخاذ قرارات حاسمة نواجهها. لذلك الحكيم هو من يخاف الله؛ وتكون نظارته العقلية متجهة نحو تكميل خلاصه بخوف ورعدة، يسلك في كل شيء بمخافة الله، التى هى أفضل من كل الكنوز؛ والتى تشكر الله كل حين على عطاياه وإحساناته، فتقتني الرضا والاتساق، ناظرة إلى كل شيء؛ وفقًا للفكر الإلهي؛ مؤمنة أن الصلاح وحده هو الذﻱ ينجي ويسند ويُبعد كل غباوة وعبودية للمال والشر واستعباد العالم.
بارادايم الإنسان المسيحي متصالح مع نفسه؛ ما دام الداخل قد تأيَّد بروح المشورة والتعضيد، الذﻱ ينبِّه بالابتعاد عن الكلام البطال؛ والانقياد لمشورات السُّكْر والبطالة والعنف ومسايرة أصدقاء السوء.
وظيفة العين هي التي ترسم النور في القلب، ليملأ الكيان بالبصيرة، ويفيض من نبعه على طبيعة الجسد ببريقه الساطع؛ لتسمو الأفكار وتبلغ إلى فهم المقاصد، حيث تتوحد الإرادة بالاتكال والعزيمة الروحية الصحيحة والمعافاة.
كلما سعى الإنسان في طريق الصلاح؛ اقتنى الأدب والفهم والاستقامة والمعرفة والتمييز والعلم والمشورات التي لا تُوزَن بالذهب؛ ولا تثمَّن بالفضة ولا بالحجارة الكريمة. وهذه هى طبيعة عدسة المسيحي الصاحي الذﻱ لا تتمشَى عقليته وسلوكه مع العقول التي خرَّبها عنف الشر والفساد والإلحاد وجنون الإرادة الذاتية؛ ولا ينجرف لدعوى الحرية الكاذبة المنفلتة؛ التي جلبت على العالم الانحلال الأخلاقي والضياع، تحت ستار الحرية الفردية.
لذلك يمارس المستثمرون الروحيون حقهم في الخيارات؛ ليختاروا الحكمة ويتطلع كلٌّ باستقامة للتعليم السماوﻱ، وتنحاز قراراتهم لتحقيق تكاملهم الروحي بحكمة بين الكاملين، من دون تحجر أو غلاظة؛ بل بإنفتاح شغوف للتعليم والفحص تحت نِير المسيح الحلو، متسلِّقين نحو المصاعد، حافظين بُوصلتهم في حفظ الرأﻱ والتدبير والأدب.
كثيرون تضاعفت سِنِيّ حياتهم عندما بقيت أفكارهم وإنجازاتهم حية، حتى بعد موتهم، وبقيت سيرتهم وكلماتهم عاملة في الناس.. فَهُمْ وإن ماتوا؛ لكنهم يعملون خلال نعمة الله التي قَبِلوها. مستثمرين عطية الفَهْم والمعرفة بطريقة إيجابية، من دون انحراف يمينًا أو يسارًا، بل بمعقولية نعمة وفطنة صالحة، في أعين الله والناس، حتى وإن قاومهم البعض؛ يبقوا مكرمين عند الأكثرين.
المتعقل دائمًا يتريَّث ليحفظ كيانه من الخداع والتفاهة والتشويش، بالالتجاء إلى حضن الكنيسة (قصر الحكمة الملوكي) ليلبس ثياب الرزانة والسمو، وتتمركز حياته في الله؛ فتُعطَى قيمة ومعنى وغاية أبدية. سائرًا في طريقه بسلاح البر لليمين واليسار ولا يميل يَمْنةً ولا يَسْرةً (أم ٤ : ٢٧). يستمد وجوده وهَويّته Identity بإتحاده بالله. وحريته نابعة من جُرن معموديته، ومن صيرورته كائنًا كنسيًا؛ له فكر وعقل وسلوك ورؤية؛ تجعله يوجد ويحيا كصورة الثالوث. ممنطقًا أحقاء ذهنه صاحيًا (١بط ١ : ١٣)، أﻱ يربط وسط ذهنه بحزام استعداد الفهم والتفكير العميق والدقيق، للتفتيش في الكتب المقدسة وحكمة الله المتنوعة؛ حسب قصد الدهور، حتى يبلغ بها غاية وثمرة إيمانه التي هي خلاص النفس، الذﻱ تعيَّن ليناله، بكلمة الله الثابتة إلى الأبد، التي تشكِّل وَعْينا وتهندس فكرنا، مقابل ثقافة وفكر الجسد الذﻱ يَيْبَس كالعشب ويسقط كزهر العشب.
وكل فكر وسلوك صالح؛ إنما يمجد صورة الله في الإنسان العاقل المخلوق على صورته ومثاله. يمجد صورته ويشترك في عظمته؛ فيصير في كرامة ونجاح، ضد التسيُّب والاستهتار والإفراط والتثقل بخمر سُكْر هموم الحياة. صاحيًا كجندﻱ لله في كل عمل صالح.
ليتنا نطلب من الله القوة المرشِدة لنفوسنا التى بواسطتها نعرف الأشياء ونميزها، فتصبح سيرتنا مستقيمة ولا عثرة فيها. حريصين من التواني والغفلة لئلا نصير مثل شمشون الذﻱ أصابه الغرور واستسلم لإمرأة غريبة فحلقت رأسه، وفارقته روح الله في الحال، وضعفت قوته وربطوه؛ وصار أضحوكة وألعوبة، فأتى الغرباء وقلعوا عينيه.
فلنهرُب نحن أيضًا من القاسي غير الرحيم؛ لئلا يقلع عيني عقولنا (البارادايم).