كيف يمكن لقارئ عربيّ أنْ يبحثَ عن كتابٍ جيِّد؟ وما الذي يساعدُهُ على ذلك؟ وكلامنا هنا سيكون محصوراً بالكُتُب التي تصدُرُ في العالم العربيّ وباللغة العربية.
من حيث المبدأ، معارضُ الكُتُب ينبغي أنْ تلعبَ دوْراً أساسياً في تسهيل المهمّة، مهمّة البحث عن الكُتُب الجيِّدة. وذلك لأنّها تُهيّئ لزائريها فُرَصاً لا
تسنحُ في كلِّ يوم، فيستعرضون في خلالها كميات ٍكبيرةً من الكُتُب التي تختارُ
دُورُ النشر عرْضَها. وفي كلمة (تختار) يكمنُ جوهرُ القضية، لأنّ هذه الكلمة تُحيلُ على كيفية الاختيار وعلى الجهات المعنيّة به.
ولكنْ، كيف لمَعارِض الكُتُبِ أنْ تلعبَ ذاك الدوْرَ المرتجى؟ إذا كنّا في بلداننا العربية نفتقرُ إلى سياساتٍ رشيدةٍ في النشر والتوزيع والعرْض… وما إلى ذلك.
إن القيّمين على نشر الكُتُب في بلداننا العربية لا يعطون الأولوية في عملهم لأهداف ٍثقافية، أو بالأحرى لتعميم المادة الثقافية الجيّدة. وإنما يعطون الأولوية
لأهداف ٍأخرى قد تتعدّد بهذه النسبة أو تلك، ولكنْ تأتي في طليعتها الأهدافُ
التجارية أو المالية، خاصة لدى ناشري القطاع الخاصّ. فالناشرون اللبنانيون، على سبيل المثال، يجدون أنفسهم مُنتجين لسوقٍ «استهلاكية» هي العالم العربي كلّه، فيجهدون لتلبية حاجات هذه السوق على اختلافها، وليست لديهم من
سياسة النشر سوى النزعة التجارية التي يمكنها التكيُّف بسرعةٍ مع متطلّبات السوق. لذلك يتراجع المستوى الثقافي للكتاب، في اهتمامات هؤلاء الناشرين، إلى مرتبة ٍثانوية ٍجدّاً.
النزعة التجارية لدى ناشري القطاع الخاص، تقابلُها نزعةٌ انتقائيةٌ ضيّقةٌ يتميّزُ بها النشرُ في القطاع العام، في معظم البلدان العربية. هذه النزعة الثانية ترسمُ للأهداف الثقافية من صناعة الكتاب حدوداً لا يمكن تجاوزها، أو بالأحرى ترسمُ سياسةً صارمةً للنشر، تسمحُ هنا وتمنعُ هناك، وفْقًا لمآربَ لا تتعلّقُ ــ في الدرجة الأولى ــ بالمستوى الثقافي للكتاب. وهكذا لا نرى أنّ النزعتيْن اللتيْن تكلّمنا عنهما تختلفان كثيراً من حيث الاهتمام بالكتاب وبمكانته وبدوْره.
إنّ الكُتُبَ الأكثر رواجاً، والأكثر ربْحاً لناشريها، هي من أنواعٍ لا تساهمُ في تكوين الوعي العام، أو في تحسين شروطه، أو في النهوض بمستوى الثقافة في مجتمعاتنا. بل هي ــ على العكس من ذلك ــ قد تساهم في تشويه ذلك الوعي وفي الحَطِّ من مستوى الثقافة.
إذاً، نستطيع القول ــ بناءً على ما تقدّم ــ إنّ سياسات النشر والتوزيع والعرْض عندنا لا تساعدُ القارئ العربيّ، ويا للأسف، في بحثه عن الكتاب الجيِّد، أو بالأحرى في هدايته إلى الكتاب الجيِّد. فكيف لمَعارِض الكُتُب في
مثل هذه الحالة أن توفِّرَ الفُرَصَ لمثل تلك الهداية؟
لقد تحوّلتْ مَعَارِضُ الكُتُب في العواصم العربية التي لا تزال قادرة على القيام ببعض النشاطات الثقافية، في ظلّ التمزّق الحاصل في أوضاعنا العامة، إلى مناسبات تطغى عليها المجاملات والمناقشات السطحية. ومن الظواهر الدّالة على ذلك ظاهرةٌ تفشّتْ كثيراً في المعارض تتمثّلُ بتواقيع الكُتُب، التي باتت أقرب إلى النشاط الاجتماعي منها إلى النشاط الثقافي. فقيمةُ الكتاب باتت بعيدةً عن مركز الاهتمام في هذه الظاهرة التي قامت في الأساس لتكون احتفاءً بتلك القيمة، أدبيةً كانت أو فكريةً أو علميةً… أو غير ذلك.
من أخطر الأمور على الثقافة أن تتحوّل إلى مجرّد احتفالاتٍ ومجاملات. إذّاك تفرِّط بنفسها، وتغدو مقتصرةً على أبعادٍ سطحيةٍ تتجلّى في نشاطاتٍ اجتماعيةٍ تتوخّى الاستعراض، بعيداً عن جوهر العمل الثقافي، الذي هو عملٌ لا يرتضي بالسطح أو المظاهر، وإنما ينزع إلى التعمُّق والنفاذ والتغيير.
المشكلة الحقيقية هي أبعد بكثيرٍ من مشكلات الكتاب العربي ومما يُثارُ حول معارض الكُتُب. إنها مشكلة القراءة باللغة العربية. أو بالأحرى مشكلة
العلاقة الراهنة بين العرب ولغتهم. فالعرب باتوا لا يقرؤون. واللغة العربية باتت ضعيفةً في الاستعمال، أي لدى الناطقين بها، فمن أين يأتي القرّاء؟ ولماذا نستغربُ تناقصَهم حتى حدود الانقراض؟
هل يُقْبِلُ على القراءة مَن لا يُحْسِنُ القراءة؟ إنها قضيةٌ تربوية ــ تعليمية. لقد باتت اللغة العربية ضعيفةً في الاستعمال، في مؤسسات التعليم ومؤسسات الإعلام، أي حيث ينبغي لها أن تكون قوية! وكذلك في معظم المؤلفات، وحتى الأدبية منها، باتت اللغة العربية في مستويات متدنية.
كيف نعمل على تحسين القراءة عندنا إذا لم نعمل على تحسين مستوياتها في الاستعمال، أي لدى الناطقين بها؟ لكي يكون لديهم إقبالٌ عليها، بدلاً من إعراضهم عنها. مثلُ هذا يتطلّبُ خططاً تربويةً تعليميةً عصريةً، نحن العرب في أمسِّ الحاجة إليها. وإزاء هذه القضية الكبرى، ترتدُّ مشكلات الكتاب، طباعةً ونشْراً وتوزيعاً وعرْضاً في المعارض، إلى مرتبةٍ ثانوية.
جودت فخر الدين
السفير
الوسوم :البحث عن الكتاب الجيِّد