مقابلة – أجرت مجلّة “أفّينيري” الإيطالية مقابلة مع صاحب الغبطة البطريرك فؤاد الطوال، تحدث خلالها عن الأوضاع في العراق وفي غزّة.
بعد اتفاق وقف اطلاق النار، يجب التفكير في مسألة اعادة اعمار غزة. ما هو التغيير الذي يتوقعه الأشخاص الذين أضحوا مقيمين في الشوارع؟
قبل عدّة أيام، استطاع الأسقف المساعد في البطريركية اللاتينية، اضافة إلى الوكيل العام، الحصول على تصريح لزيارة غزّة. يتم احترام الهدنة، ولكننا حصلنا على هذه النتيجة بعد مقتل أكثر من ألفي فلسطيني والتدمير شبه الكامل للمدينة. ليست هذه المرة الأولى التي يدفع فيها سكان غزة مثل هذا الثمن. وإننا نواجه من جديد عملية اعادة اعمار تكلف الكثير من الناحيتين الإقتصادية والبشرية. أتسائل: تم تدمير غزّة وتدمير شعب بأكمله، ثم نفكر في إعاد الإعمار… لماذا يجب أن نصل إلى هذه المرحلة؟ من الذي سيضمد الجراح الداخلية؟ من الذي سيعتني بهؤلاء الأطفال الذين شاهدوا الكثير من الأمور المروعة وفقدوا الكثير من أفراد عائلاتهم؟ أرى أن الأوضاع لا تزال هي هي منذ الحرب الأولى، وإذا لم تتغير هذه الأحوال، فإننا سنستمر في رؤية أشخاص يشعرون باليأس والخضوع والإحباط. سنستمر في رؤية المزيد من الكراهية والتطرف. وسندفع ثمن جميع هذه السياسات.
كيف نستطيع أن نصل إلى اتفاق عادل وإلى حل سلمي؟
كي نصل إلى اتفاق عادل ومن ثم إلى سلام عادل في قطاع غزّة، على كل طرف أن يضع نفسه مكان الطرف الآخر. هذا الأمر يتعلق بالذات بالكبار، برجال السياسة والقادة، هي دعوة لهم كي يتمتعوا بتفكير منطقي، وبأن يعملوا فعلاً من اجل تحقيق سلام بنّاء. على المجتمع الدولي أيضاً أن يتمتع بهذه النظرة من موقعه في الخارج، وأن يتحلى بالشجاعة في قول الحقيقة، وإن لم يرضي ذلك الجميع. لدينا جميعاً الكرامة نفسها، ولدينا جميعاً الحقوق والواجبات نفسها. هنالك في السياسة الدولية مبدأ أساسي يعرف بمبدأ “المعاملة بالمثل”. يجب على هذا المبدأ أن يُطَبَّق.
هل باستطاعة الكنيسة في الأرض المقدسة أن تشجع هذه النظرة؟
أعتقد أن جميع الكنائس المسيحية، الموجودة هنا منذ قرون، تتمتع بإمكانيات تساعد على الوصول إلى رؤية كاملة. باستطاعتها أن تقدم نظرة متوازنة تبحث عن الخير للجميع، وهي نظرة يصعب على الطراف المتنازعة الوصول إليها. وجود الكنائس المسيحية هو حضور بعيد كل البعد عن التعصب السياسي أو الديني، الذي نجده لدى طرفي النزاع.
استقبل قداسة البابا كاهن رعية غزّة وقدم له التشجيع. هل لمكوث هذا الكاهن في رعيّة غزّة أثناء الحرب رسالة تتعدى كنيسة الأرض المقدسة؟
نحن نبقى إلى جانب شعبنا دائماً. نحن نعيش في الواقع، بتنوع أشكاله. نحن مع الأشخاص عندما يتألمون وكنائسنا تبقى مفتوحة للجميع. وهذا يظهر بوضوح من نحن، وما هي هويتنا الأصيلة. في غزّة كما في سوريا والأردن والعراق أيضاً.
هل على المجتمع الدولي، في رأيكم، أن يصغي إلى صوت الكنيسة في الشرق الأوسط؟
إن استشارة رعاة الكنيسة الذين يعيشون على أرض الواقع قد يساعد في أخذ قرارات صائبة، وتفادي الكثير من الزلات. إن عدم الإصغاء إلى صوت بطاركة الكنيسة يقود إلى اقتراف الكثير من الأخطاء. للأسف، فإن السياسة في المنطقة هي سياسة مصالح. سياسة تتجاهل صرخة الرعاة. ويبدو أن المجتمع الدولي يساوي بين من يقيمون في المنطقة وخارجها.
هل لديكم من مثال يوضح هذه السياسة؟
أحد الأمثلة هو مثال الزعيم القذافي. تم التعامل معه مدّة أربعين سنة على أنه صديق. وبعد أربعين سنة اكتشفوا أنه سيء. لكن هنالك الكثيرون ممن هم أسوأ من قذافي، لكن أحداً لم يكلمهم. يتم تغيير الأنظمة وتدمير البلدان فقط تحقيقاً لمصالح معينة.
ماذا على الغرب أن يفعل لكي يحميكم ويحمي نفسه من المتطرفين؟
أولاً على الغرب أن يتدخل بأسلوب منطقي، وليس فقط عندما يتم تهديد مصالحه. في خطابه الذي ألقاه في الأردن موجهاً إياه إلى الشعب السوري، شدد قداسة البابا على أن من يبيعون الأسلحة هم “مجرمون”.
أكَّدتم في العظة التي ألقيتموها أثناء زيارتكم لسيراكوز (ايطاليا)، بأن تنظيم الدولة الإسلامية قد نال في البداية دعماً من المجتمع الدولي. هل لكم أن توضحوا لنا تأكيدكم هذا؟
سأعود في حديثي إلى سوريا لأن كل شيء بدأ هناك. سعياً منهما للإطاحة بنظام بشار الأسد، عمل كل من المجتمع الدولي وأمريكا في البداية على دعم المتطرفين، ومن بينهم جميع هؤلاء المجانين الذين جاؤوا من أوروبا إلى سوريا لمحاربة نظام لا يُسعد وجودُه أمريكا ولا اسرائيل ولا المجتمع الدولي. إلا أن النظام لا يزال قائماً، وعدد القتلى لا يكف عن الإرتفاع. إنها سياسة عمياء.
لاحظنا أيضاً الصمت الذي اختبأ خلفه العديد من الزعماء العرب، سواء أثناء ما كان يحدث في غزّة، أو أثناء النزاع على السلطة الذي يحركه الجهاديون في العراق…
أعرب الكثير من المثقفين والأفراد في العالم الإسلامي عن رفضهم لهجمات الجهاديين والعنف الذي تتسبب به أيديولوجيتهم. لكن من جانب الكثير من الحكومات العربية، وجدنا نقصاً تاماً في اصدار اعلانات واضحة واتخاذ مواقف صريحة. لا شيء أبداً. هذه الحكومات أيضاً تحاول حماية مصالحها الخاصة.
تبقى مشكلة التطرف. كيف بالإمكان، بحسب رأيكم، محاربته؟
سؤالنا هو: من يقف خلف التطرف ومن يغذيه؟ لا يمكن تحييد هذا الميل إلى تبجيل العنف باسم الله إلا من خلال تربية جيدة وسليمة. متى انعدمت مثل هذه التربية، فإننا سندفع الثمن. كل شيء يعتمد على ما نعلمه لأبنائنا. فالتربية السيئة تُهَيءُ للتعصب، بينما تُهَيءُ التربية الجيدة لبناء الحوار الذي نرغب به جميعاً. التعصب والأصولية موجودة لدى مختلف الأطراف. فهي لا تقتصر على الإسلاميين أو ممثلي الإسلام وحدهم. فهنالك تطرف أيضاً في الجانب الإسرائيلي.
هل تلمحون إلى مجموعات المستوطنين الإسرائيليين الذين يقومون بهجمات ضد المسيحيين والمسلمين بإسم سياسة “دفع الثمن”؟
لقد تألمت كثيرا في العام الماضي من جراء الكتابات المسيئة والجارحة التي وضعتها هذه المجموعات على جدران كنائسنا. قامت السلطات باستنكار وشجب هذه الأفعال. لكن الشجب وحده لا يفيد شيئاً إذا لم يتم بعد ذلك تقديم الفعلة إلى العدالة، وإذا لم يتم حلّ المشكلة المتعلقة بالتربية. أتسائل عمّا إذا كانت التربية والإجراءات الوقائية في المؤسسات الإسرائيلية مناسبة للحد من هذه الظاهرة. تلقيت العديد من المكالمات من قبل العديد من المدرسين في الجامعات الذين أدانوا بصورة كاملة هذه الأفعال والذين سألوني بكل صدق عمّا بإمكانهم فعله. فأجبت: “أنتم على تواصل مع العديد من الشباب. العديد من الطلاب. أرجوكم، علموهم ما معنى احترام الآخرين وما معنى الديمقراطية والحريّة. إنها ظواهر يجب على كل أمة أن تدينها وتمنع انتشارها من خلال تقديم تربية متوازنة”.
ما هو رأيكم في مسألة تجنيد المسيحيين العرب في الجيش الإسرائيلي؟
على المستوى الفردي، كل واحد هو حرّ في أن يفعل ما يريد. لكنني اعتقد بأن لهذه الدعوة هدفاً هو تقسيم المجتمع العربي من الداخل، وتمزيق مجتمع يتكون من مسلمين ومسيحيين عاشوا معاً دائماً جنباً إلى جنب، وذلك من خلال محاولة التأكيد على أن المسيحيين ليسوا عرباً. المسيحيون هنا، وأنا منهم، هم 100% مسيحيون و100% عرب. ما من أحد يستطيع تغيير ذلك واصدار أوراق خاطئة. ما من أحد يستطيع أن يقنع العالم بخلاف ذلك. وإذا قبل أحد بهذا الإقتراح، فإنه سيتحمل مسؤولية ذلك. هنالك وللأسف، من يختارون ذلك إمّا خضوعاً للضغط أو مقابل الحصول على المال.
استطعتم مؤخراً الإلتقاء باللاجئين العراقيين في الأردن. ما الذي سمعتموه ورأيتموه؟
قمت بزيارة المركز الذي فتحته مؤسسة كاريتاس الأردن لإستقبال اللاجئين من الموصل. ما شاهدته كان وضعاً دراماتيكيّاً للغاية. كثيرون لم يريدوا التعبير عن انفسهم بسبب ألمهم، وعذابهم من جراء تركهم لواحد أو أكثر من أبنائهم في العراق. لا نعلم حتى هذه اللحظة ماذا سيكون مستقبلهم. إذا كانوا سيستطيعون العودة إلى بلادهم ام لا. كثيرون منهم لا يريدون العودة، لأنهم فقدوا كل شيء. أمّا نحن كبطريركيّة، فإنّنا نلتزم بمساعدتهم من الناحيتين المادية والمعنوية. أوجه ندائي إلى المجتمع الدولي وإلى أبرشيات ايطاليا كي تتضامن معنا في مساعدة هذه النفوس.
أجرت المقابلة استيفانيا فالاسكا من جريدة الأفّينيري الإيطالية (ترجمة عن النص بالفرنسية).
المصدر: موقع البطريركية اللاتينية في القدس