ألقى واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا تأمله الأول لزمن المجيء في كابلة أم الفادي في القصر الرسولي بالفاتيكان بحضور الأب الأقدس، وهو التأمل الأول من سلسلة تأملات سيلقيها الأب كانتالاميسا خلال زمن المجيء حول موضوع “أؤمن بالروح القدس”.
استهل واعظ القصر الرسولي تأمله بالقول مع الاحتفال بالذكرى الخمسين لاختتام المجمع الفاتيكاني الثاني، اختُتمت أيضًا المرحلة الأولى من ما بعد المجمع وبدأت مرحلة أخرى. تحمل الحداثة الأكبر بعد المجمع في اللاهوت وحياة الكنيسة اسمًا محدّدًا وهو الروح القدس. إن المجمع الفاتيكاني لم يتجاهل عمل الروح القدس في الكنيسة فقد تحدّث عنه غالبًا ولكن بدون أن يسلِّط الضوء على دوره الأساسي حتى في الدستور العقائدي حول الليتورجيّة. لكن يمكننا القول إنّ رؤية القديس يوحنا الثالث والعشرين للمجمع الفاتيكاني كـ “عنصرة جديدة للكنيسة” قد وجدت تحقيقها فقط بعد اختتام المجمع، كما حصل غالبًا في تاريخ المجامع.
تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول نحتفل في السنة المقبلة بالذكرى الخمسين لولادة حركة التجدّد بالروح القدس في الكنيسة. إنها إحدى علامات يقظة الروح القدس والمواهب في الكنيسة، والمجمع الفاتيكاني الثاني كان قد مهّد لها الدرب بحديثه عن البعد المواهبي في الكنيسة، كما أكّد البابا بندكتس السادس عشر في عظته في قداس تبريك الزيوت يوم خميس الأسرار عام 2012 إذ قال: “إن من ينظر إلى تاريخ مرحلة ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني يمكنه أن يرى ديناميكيّة التجدّد الحقيقي الذي اتّخذ غالبًا أشكالاً غير متوقَّعة في حركات تنبض بالحياة وتجعل ملموسة حيويّة الكنيسة المقدّسة وحضور الروح القدس وعمله الفعّال”. وفي الوقت عينه، حثّت الخبرة المتجدّدة للروح القدس التأمل والعمل اللاهوتي، وبالتالي تزايدت بعد المجمع الكتابات اللاهوتيّة حول الروح القدس بين الكاثوليك واللوثريين.
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول في قانون الإيمان الحالي ننطلق من الله الآب والخالق وننتقل منه إلى الابن وعمل الفداء الذي حقّقه ونصل أخيرًا إلى الروح القدس الذي يعمل في الكنيسة. أما في الواقع فقد تبع الإيمان المسيرة المعاكسة، إذ أن خبرة العنصرة التي تمّت بواسطة الروح القدس هي التي حملت الكنيسة على اكتشاف من هو يسوع فعليًّا وما هو تعليمه. ومع بولس ولاسيما مع يوحنا يمكننا أن ننتقل من يسوع إلى الآب، لأنّ البارقليط المعزّي هو الذي، وبحسب وعد يسوع، يقود التلاميذ إلى “ملء الحقيقة” حوله وحول الآب. يلخّص القديس باسيليوس الكبير بهذه التعابير تمام الوحي وتاريخ الخلاص: “إن مسيرة معرفة الله تنبع من الروح القدس الواحد من خلال الابن الوحيد وصولاً إلى الآب الواحد؛ وبالعكس تنتشر الطيبة والقداسة والكرامة الملوكيّة من الآب بواسطة الابن الوحيد وصولاً إلى الروح القدس”.
بمعنى آخر، تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول، في تسلسل الخلق كل شيء ينطلق من الآب ويمرّ بالابن ويصل إلينا بواسطة الروح القدس، أما في تسلسل الفداء والمعرفة فكل شيء يبدأ مع الروح القدس ويمرّ بالابن يسوع المسيح ويعود إلى الآب. يُعبَّر عن هذا الأمر بشكل مقتضب في التقليد الغربي من خلال النشيد “تعال أيها الروح القدس” والذي ترفع من خلاله الكنيسة الصلاة للروح القدس قائلة: “أعطنا معرفة بها نعرف الآب ونعلم الابن ونؤمن كلّ حين أنك روح كليهما”. وبالتالي سأحاول في تأملات المجيء الثلاثة أن أقدّم تأملات حول بعض جوانب عمل الروح القدس انطلاقًا مما يتعلّق بالروح القدس في قانون الإيمان ومن ثلاثة إقرارات كبيرة: “… نؤمن بالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب والابن، الذي هو مع الآب والابن يُسجد له ويُمجد، الناطق بالأنبياء…”
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول ننطلق من التحديد الأول: “… نؤمن بالروح القدس، الرب المحيي”. إن قانون الإيمان لا يقول إن الروح القدس هو الرب، إذ يشير إلى طبيعته ولا إلى شخصه، يقول ما هو وليس من هو الروح القدس. وبالتالي فكلمة رب تشير إلى أن الروح القدس يتشارك في سيادة الله، وقد وصلت الكنيسة إلى هذا اليقين استنادًا إلى الكتاب المقدّس وإنما أيضًا إلى خبرتها الشخصيّة للخلاص. أما التعبير بأن الروح القدس يُحيي فهو يُستخلص من مقاطع متعدّدة من العهد الجديد: “إِنَّ الرُّوحَ هو الَّذي يُحيي…” (يوحنا 6، 63)؛ “لأَنَّ شَريعةَ الرُّوحِ الَّذي يَهَبُ الحَياةَ في يسوعَ المسيح…” (روما 8، 2)؛ “…وكانَ آدمُ الآخِرُ رُوحًا مُحيِيًا” (1 كور 15، 45)؛ “لأَنَّ الحَرْفَ يُميتُ والرُّوحَ يُحْيي” (2 كور 3، 6). وبالتالي نطرح على أنفسنا ثلاثة أسئلة. الأول: ما هي الحياة التي يعطيها الروح القدس؟ الجواب: الحياة الإلهيّة، حياة المسيح. الثاني: أين يعطينا هذه الحياة؟ الجواب: في المعموديّة التي تُقدّم لنا كولادة جديدة في الروح وفي الأسرار وكلمة الله والصلاة والإيمان والألم الذي نقبله اتحادًا بالمسيح. الثالث: كيف يعطينا الروح هذه الحياة؟ الجواب: من خلال إماتة أعمال الجسد، كما يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل روما: “لأَنَّكم إِذا حَيِيتُم حَياةَ الجَسدِ تَموتون، أَمَّا إِذا أَمَتُّم بِالرُّوحِ أَعمالَ الجَسَدِ فسَتَحيَون”.
تابع الأب رانييرو كانتالاميسا يقول ” المنبثق من الآب والابن، الذي هو مع الآب والابن يُسجد له ويُمجد”، حتى الآن حدثنا قانون الإيمان عن طبيعة الروح القدس وليس عنه كأقنوم؛ وقد قال لنا ما هو وليس من هو الروح القدس؛ حدّثنا عما يجمع الروح القدس بالآب والابن وما يميّزه عنهما: ما يميّزه عن الآب هو أنّه ينبثق منه، وما يميّزه عن الابن هو أنّه ينبثق من الآب لا كمولود منه وإنما كالنفس الذي يخرج من فمه. فالروح القدس سيبقى على الدوام الإله الخفي حتى وإن كنا نعرف نتائجه؛ فهو كالهواء: لا نعرف من أين يأتي ولا إلى أين يذهب ولكننا نرى نتائجه عند مروره. إنّه كالنور الذي ينير كل ما يقف أمامه فيما يبقى هو خفيًّا. ولذلك هو الأقنوم الذي لا نعرفه جيّدًا وبالتالي نحبّه أقل من الباقين بالرغم من أنه الحب بذاته؛ من السهل بالنسبة لنا أن نفكّر في الآب والابن كأشخاص ولكن لا يمكننا أن نرى الروح القدس كشخص، لا وجود لفئات بشريّة يمكنها أن تساعدنا لفهم هذا السرّ، في حديثنا عن الله الآب تساعدنا الفلسفة التي تهتمّ بالمحرِّك الأول (إله الفلاسفة)؛ وفي حديثنا عن الابن نجد التشابه البشري في العلاقة البشريّة بين أب وابنه، أما في حديثنا عن الروح القدس فلا نملك إلا الوحي والخبرة. سنفهم من هو الروح القدس بشكل كامل في الفردوس فقط، لا بل سنعيشه في حياة لا نهاية لها وفي عمق سيعطينا فرحًا كبيرًا.
أضاف واعظ القصر الرسولي يقول ” الناطق بالأنبياء…” لقد وصلنا إلى التحديد الأخير حول الروح القدس والذي يتمُّ الإشارة من خلاله إلى عمله المواهبي، وتتمُّ تسمية عمل واحد للجميع والذي يعتبره القديس بولس الأول في الأهميّة أي النبؤة. تخبرنا الرسالة إلى العبرانيين: “إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين”. إن الروح القدس لم يتوقّف يومًا من النطق بالأنبياء، وقد نطق بيسوع أيضًا وهو ينطق اليوم أيضًا في الكنيسة.
وختم واعظ القصر الرسولي الأب رانييرو كانتالاميسا تأمله الأول لزمن المجيء بالقول إن ما نعرفه حول الروح القدس هو أكثر من الكلمات التي يقولها قانون الإيمان حول المعزّي لأنّ اللاهوت والليتورجيّة والتقوى الشعبيّة في الشرق والغرب قد جسّدوا بالكامل إقرارات قانون الإيمان هذه. ففي نشيد عيد الفصح نعبّر عن العلاقة الحميمة بين الروح القدس وكل نفس قائلين: “أنت للمسكين أب جُد بنعماك وهب، نوِّر القلوب تعال… يا عزاء للنفوس أنت ضيفها الأنيس…”، ويتابع هذا النشيد موجّها للروح القدس بعض التضرعات التي تجيب على احتياجاتنا، نختتم تأملنا بإعلانها معًا: “ربِّ طهّر رجسنا بل ورطِّب يبسنا، إشفنا داوِ الجراح… ليِّن الصلب العنيد، لطِّف البرد الشديد وإهدنا الدرب الصحيح…”.
إذاعة الفاتيكان