تؤمن المسيحيّة بأنّ يسوع المسيح هو كلمة الله الكائن منذ الأزل، وهو نفسه قد اتّخذ جسدًا من مريم البتول، وصار إنسانًا تامًّا من دون أن يتخلّى عن ألوهته: “ذاك الذي كان منذ البدء، ذاك الذي سمعناه، ذاك الذي رأيناه بعينينا، ذاك الذي تأمّلناه ولمسته يدانا” (رسالة يوحنّا الأولى 1، 1). وقد حاربت الكنيسة منذ نشأتها الهرطقات والبدع التي زعمت أنّ المسيح لم يتّخذ جسدًا حقيقيًّا بل “مظهر جسد” أو “شبه جسد”.
احتلّ موضوع التجسّد موقعًا مميّزًا في الجدل (والحوار) المسيحيّ الإسلاميّ القديم والمعاصر. وهو ما زال يتصدّر إلى يومنا الحاضر لائحة المشكلات اللاهوتيّة التي لا يمكن التوصّل فيها إلى نقاط مشتركة ما بين المسيحيّة والإسلام. فالقول بأنّ كلمة الله قد تجسّد في إنسان، وبأنّ الكلمة إله تامّ وإنسان تامّ، قول لا يستسيغه الفكر الإسلاميّ الذي يعتبر القرآن كلام الله القديم غير المخلوق. أمّا المسيحيّة فتقول إنّ المسيح، كونه كلمة الله المتجسّد، قد حلّ فيه ملء اللاهوت جسديًّا.
أجمع الكتّاب المسيحيّون العرب عند كلامهم عن تجسّد الكلمة على القول بأنّ التجسّد هو ثمرة الجود الإلهيّ. فالفيلسوف أبو زكريّا يحيى بن عدي السريانيّ التكريتيّ (+974) يقول: “إنّ أفضل الجائدين هو الجائد بأفضل الذوات. وأفضل الذوات ذات البارئ. فلزم جود البارئ بذاته علينا، وهذا كان باتّصاله بنا”. الله الذي هو ليس الكريم وحسب، بل هو أفضل الكرماء، لا بدّ أن يجود بذاته لأنّها أفضل الذوات. لذلك جاد بنفسه على الطبيعة البشريّة، تشريفًا لها وارتقاءً بها إلى الحضرة الإلهيّة، فاتّحد بها إذ صار إنسانًا.
يؤكّد ثاذورُس أبو قرّة أسقف حرّان الأرثوذكسيّ (القرن التاسع) أنّ السبب الأوّل للتجسّد هو أن يقترب الله من الإنسان، فيتمكّن الإنسان من التعرّف إلى الله، والسبب الثاني الذي لا يقلّ أهمّيّة هو فداء الإنسان وإنقاذه من سطوة إبليس. لذلك “أرسل الله كلمته وروحه إلى مريم العذراء الطاهرة، فحملت نور الله الذي هو من الله، وظهر متجسّدًا (…) فصارت كلمة الله شبه إنسان بلا خطيئة، وهو إله. المسيح كلمة الله وروحه، وإنّه من ذاته وجوهريّته، خالق غير مخلوق”.
يعتبر عمّار البصريّ (كاتب مجهول في القرن التاسع) أنّ التجسّد هو تشريف إلهيّ للإنسان، فيقول: “إنّ جود الله وكرمه وصلاحه وجبروته التي دعته إلى أن أبدع وأنشأ خلقه، هي التي دعته أخيرًا إلى استكمال إحسانه بتجسّده بشريًّا من خلقه. وذلك ليوجب للبشريّ بتجسده إيّاه حظّ بنوّته وسنا ربوبيّته”. من هنا، يكون الكلمة قد أخذ جسدًا خاطب عبره الناس مباشرةً، لأنّ الطبيعة الإنسانيّة هي خير مقام للتجلّي الإلهيّ. فعمار يرى أنّ تجسّد الكلمة الإلهيّ هو “أشبه بفضل الله وجوده، وأبين لإكرامه إيّاهم وتشريفه لهم من ظهوره (في العهد القديم) في بيت حجارة وتابوت خشب وشجرة حقيرة وسحاب”.
أمّا بولس أسقف صيدا الأرثوذكسيّ (القرن الثاني عشر) فاعتبر التجسّد خير طريق اختارها الله لكي يتّصل بالإنسان ويبلّغه الرسالة الأسمى، فيقول: “ولأنّ الله جوّاد، وجب أن يجود بأجلّ الموجودات. وليس في الموجودات أجود من كلمته، يعني نطقه. ولذلك وجب أن يجود بكلمته حتّى يكون أجود الأجواد. فعلى هذا وجب أن يتّخذ ذاتًا محسوسة يُظهر منها قدرته وجوده. ولـمّا لم يكن في المخلوقات منه أشرف من الإنسان، اتّخذ الطبيعة البشريّة من السيّدة مريم المطهّرة، المصطفاة على نساء العالمين”.
ينتقد الكتّاب المسيحيّون العرب مَن يرفضون الاعتقاد بتجسّد الكلمة، ويعتبرون موقف الرافضين بأنّه نابع من البخل الذي يقابل به الإنسان جود الله عليه. فيحيى بن عدي يقول في هذا السياق: “وإذا كان اتّصاله بنا ممكنًا، وكان لنا فيه غاية الشرف وله فيه كمال الجود، فلا يمنعه إلاّ العجز أو البخل. وهما من صفات النقص، فهو يتعالى عنهما. فيجب اتّصاله بنا”. ويورد عمّار البصريّ الحجّة ذاتها بقوله: “لمَ تبخل لخالقك بأن يبلغ بك غاية جوده وكرامته، وذلك لا يُنقص من ملكه وسلطانه كما لم يُنقصه ما قدّم لك من كرامته، كأنّك تريد أن تساويه بنفسك في البخل؟”.
عيد الميلاد الحاجّون إليه هو، وفق اللاهوت المسيحيّ، عيد التجسّد الإلهيّ. وأجمل هديّة أكرمَنا بها الله كانت ابنه الوحيد الذي وُلد في مذود حقير للبهائم. أمّا الذين أُرسلت الهديّة إليهم أوّلاً فرفضوها إلاّ قلّة عزيزة منهم. ففي أيقونة الميلاد نشاهد ثورًا وحمارًا يحيطان بالطفل يسوع يدفّئانه، وهما يرمزان إلى النبوءة الواردة في العهد القديم: “عرف الثور قانيه والحمارُ معلفَ صاحبه لكنّ إسرائيل لم يعرف وشعبي لم يفهم” (إشعيا 1، 3). فكونوا كرماء كما أنّ الله كريم. هذا هو العيد.
ليبانون فايلز